وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع ... وفي كل يوم لقية وخطاب
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر ... وللبحر حولي زخرة وعباب؟
ففي البيت الثاني يريد أبو فراس أن يقول:«فكيف وفيما بيننا بعد شاسع» ولكنه كنى عن هذا المعنى بقوله: «ملك قيصر وللبحر حولي زخرة وعباب» فجمال هذه الكناية ليس في المعنى المكنى عنه وهو «البعد الشاسع الذي يفصل بين الرجلين» وإنما هو في الإتيان بملك قيصر والبحر الزاخر العباب وإثباته للمكنى عنه في صورة برهان محسوس عليه.
والكناية كالاستعارة من حيث قدرتها على تجسيم المعاني وإخراجها صورا محسوسة تزخر بالحياة والحركة وتبهر العيون منظرا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى تصويرا لحال صاحب الجنة عند ما رأى جنته التي كان يعتز بها قد أهلكها الله عقابا له على شركه: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.
فالكناية في الآية الكريمة هي في قوله تعالى: يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ والصفة التي تلزم من تقليب الكفين هي الندم والحزن، لأن النادم والحزين يعملان ذلك عادة. فتقليب الكفين في مثل هذا الموقف كناية عن الندم والحزن.
فالمعنى الصريح هنا هو «فأصبح نادما حزينا» وهذا أمر معنوي تدخلت فيه الكناية فجسمته وأظهرته للعيان في صورة رجل اعتراه الذهول من هول ما أصاب الجنة التي كان يعتز بها، فوقف يقلب كفيه ندما وحزنا على أمله المنهار أمام عينيه! وهذا سبب من أسباب بلاغة الكناية.
ومن صور الكناية الرائعة تفخيم المعنى في نفوس السامعين، نحو