أجل لقد تتلمذ على عبد القاهر في هذين الكتابين وعمق في فهمهما واستيعابهما إلى الحد الذي جعله يؤمن بأنّ
المعرفة بالبلاغة وأساليبها لا تكشف فقط عن وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن، بل تكشف أيضا عن خفايا معانيه وأسرارها.
وفي مقدمة «الكشاف» يقرر أنّ تفسير القرآن لا يكفي فيه أن يكون المفسر من أئمة الفقه، أو النحو، أو اللغة، أو علم الكلام، أو القصص والإخبار. وإنّما ينبغي فيمن يتصدى له أن يكون بارعا في علمين مختصين بالقرآن هما: علم المعاني، وعلم البيان، وهذان، في نظره، أهم عدّة لمن يريد أن يفسر القرآن، إذ بدونهما لا تستقيم له الدلالات، ولا تتضح له الإشارات، ولا لطائف ما في الذكر الحكيم من الجمال المعجز الذي عنت له وجوه العرب وخروا له ساجدين.
إذن فالتفسير عنده ليس قاصرا على معرفة معاني القرآن فحسب، وإنّما هو أيضا بيان لأسرار إعجازه، بل إنّ معرفة معانيه لا تتم إلّا لمن تمّت له آلة البلاغة، وعرف وجوه الأساليب وخصائصها المعنوية، وأدرك الأسباب المعينة على تمييز صور الكلام البيانية.
...
والذي يدرس بإمعان تفسير «الكشاف» يخرج منه بحقيقتين:
إحداهما أنّه استوعب كل ما كتبه عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» قبل أن يشرع في تفسيره. والحقيقة الثانية أنّ «الكشاف» هو في الواقع خير تطبيق على كل ما اهتدى إليه عبد القاهر من قواعد المعاني والبيان، فقد اتّخذ الزمخشري من آي الذكر الحكيم أمثلة وشواهد يوضح