السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يَعْمُرُونَ أَرْضَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا غَالِبُهُمْ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ لَا تَتَيَسَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ; لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى عَامِلٍ أَمِينٍ، وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَرْضَى بِالْمُسَاقَاةِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَخَذَ الْأَرْضَ يَرْضَى بِالْمُشَارَكَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا قَدْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ السَّوْدَاءَ ذَاتَ الشَّجَرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاحْتِيَالَ بِالتَّبَرُّعِ أَمْرٌ [بَارِدٌ] لَمْ يَكُنِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ عمر بِمَالِ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ، وَكَمَا يَفْعَلُهُ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ وَإِلَى الْيَوْمِ.
فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا هَذِهِ الْإِجَارَةَ، وَلَا أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِحِيلَةِ التَّبَرُّعِ - مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لِفِعْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ - عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَفْعَلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَيَكُونُ فِعْلُهَا كَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ.
وَلَعَلَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ أَوِ الْمُزَارَعَةِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كِرَاءِ الْأَرْضِ السَّوْدَاءِ، وَلَا فِي الْمُسَاقَاةِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهَا طَائِلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: سُئِلَ أحمد عَنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: " الْقَبَالَاتُ رِبًا " قَالَ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْقَرْيَةَ فِيهَا النَّخْلُ وَالْعُلُوجُ، قِيلَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَخْلٌ، وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ، إِنَّمَا هُوَ الْآنَ مُسْتَأْجِرٌ، قِيلَ: فَإِنَّ فِيهَا عُلُوجًا؟ قَالَ: فَهَذَا هُوَ الْقَبَالَةُ الْمَكْرُوهَةُ، قَالَ حَرْبٌ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute