للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

١٥٤٥ - وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مَنْصُورٍ، وَنَسَخْتُ مِنْ كِتَابِهِ هَذَا الْحَدِيثَ، قَالَ: أَخَذْتُ نُسْخَةَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ كِتَابِ رَجُلٍ قَالَ: هَذَا كِتَابُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي فَضْلِ مَكَّةَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الزَّهَادَةِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ آدَمَ، وَكَانَ مُجَاوِرًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ مُوسِرًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ بِمَكَّةَ إِلَّا الْعِبَادَةُ، وَأَنَّهُ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُرَغِّبُهُ فِي الْمَقَامِ بِمَكَّةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حَفِظَكَ اللهُ يَا أَخِي بِحِفْظِ الْإِيمَانِ، وَوَقَاكَ الْمَكْرُوهَ وَوَفَّقَكَ لِلْخَيْرَاتِ، وَأَتَمَّ عَلَيْكَ النِّعْمَةَ، وَجَمَعَنَا وَإِيَّاكَ فِي جِوَارِ الرَّحْمَنِ وَمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي كَتَبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا وَمَنْ قِبَلِي مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْإِخْوَانِ عَلَى أَفْضَلِ الْأَحْوَالِ، وَرَبُّنَا مَحْمُودٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا، قَدِ انْتَهَى إِلَيَّ أَنَّكَ قَدْ أَزْمَعْتَ الشُّخُوصَ مِنْ حَرَمِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّحَوُّلَ مِنْهُ إِلَى الْيَمَنِ فِي سَبَبِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَإِنِّي وَاللهِ كَرِهْتُ ذَلِكَ وَغَمَّنِي، وَاسْتَوْحَشْتُ لِذَلِكَ وَحْشَةً شَدِيدَةً، وَتَعَجَّبْتُ مِنْكَ إِذْ أَطَعْتَ فِي ذَلِكَ الشَّيْطَانَ، فَإِيَّاكَ يَا أَخِي ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَبْرَحَ مِنْهَا؛ فَإِنَّ الْمَقَامَ بِهَا سَعَادَةٌ، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا شَقَاوَةٌ، فَنَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكَ لِلْخَيْرَاتِ، فَإِنَّهُ الْمَنَّانُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ إِيَّاكَ يَا أَخِي وَالظَّعْنَ مِنْهَا؛ فَإِنَّكَ فِي خَيْرِ أَرْضِ اللهِ وَأَحَبِّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ وَأَفْضَلِهَا وَأَعْظَمِهَا حُرْمَةً، وَإِنَّ

⦗٢٨٩⦘

اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَضَّلَ مَكَّةَ عَلَى جَمِيعِ الْبُلْدَانِ، وَأَنْزَلَ ذِكْرَهَا فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: ٩٧] وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهَدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: ٩٧] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج: ٢٥]، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: ٣٥] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: ٣٧] وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: ١٢٦] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٤٤] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: ١٩٨] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: ١٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: ١٢٥] وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: ١] قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ

⦗٢٩٠⦘

الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ} [الحج: ٢٦] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: ١٢٧] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: ٩١] وَقَالَ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: ١٥] وَقَالَ: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: ٥٧] وَقَالَ: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: ١١٢] وَقَالَ: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: ٧] وَقَالَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} [البقرة: ١٥٨] وَقَالَ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: ٣] هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ أَنْزَلَهَا اللهُ تَعَالَى فِي مَكَّةَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ فِي بَلَدٍ سِوَاهَا، ثُمَّ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ، وَيُقَالُ: خَيْرُ بَلْدَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَحَبُّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، يَعْنِي مَكَّةَ وَرُوِيَ أَنَّ الْأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْهَا، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ الْمَلَائِكَةُ قَبْلَ

⦗٢٩١⦘

آدَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِأَلْفَيْ عَامٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَهْرُبُ نَبِيٌّ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا هَرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَعَبَدَ اللهَ تَعَالَى فِيهَا حَتَّى يَمُوتَ، وَسَمِعْنَا أَنَّ حَوْلَ الْكَعْبَةِ قُبُورَ ثَلَاثِمِائَةِ نَبِيٍّ، وَأَنَّ قَبْرَ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَشُعَيْبٍ، وَصَالِحٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِيمَا بَيْنَ الْمُلْتَزَمِ وَالْمَقَامِ، وَأَنَّ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ قُبُورُ سَبْعِينَ نَبِيًّا، ثُمَّ مَا أَعْلَمُ مِنْ بَلْدَةٍ ضَرَبَ إِلَيْهَا جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ خَاصَّةً مَا ضُرِبَ إِلَى مَكَّةَ، وَمَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَلْدَةً تُرْفَعُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ وَأَنْوَاعُ الْبِرِّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ مَا يُرْفَعُ مِنْهَا، ثُمَّ مَا أَعْلَمُ بَلْدَةً يَجِدُ فِيهَا مِنَ الْأَعْوَانِ عَلَى الْخَيْرِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَا يَجِدُ فِيهَا، وَلَنَوْمُكَ فِيهَا بِاللَّيْلِ وَإِفْطَارُكَ بِالنَّهَارِ يَوْمًا وَاحِدًا فِي حَرَمِ اللهِ تَعَالَى أَرْجَى وَأَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ صِيَامِ الدَّهْرِ وَقِيَامِهِ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ مَا أَعْلَمُ يُحْشَرُ مِنْ بَلْدَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُقَهَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ وَالصَّالِحِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا يُحْشَرُ مِنْهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ آمِنُونَ، ثُمَّ مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي بَلْدَةٍ مِنَ الدُّنْيَا كُلَّ يَوْمٍ رَائِحَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ وَرَوْحِهَا مَا يَنْزِلُ بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ: إِنَّ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ مَفْتُوحٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يُغْلَقُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ مَا أَعْلَمُ يَنْزِلُ بِبَلْدَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ رَحْمَةٍ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ: ذَلِكَ كُلُّهُ لِلطَّائِفِينَ، يُقَالُ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَسْتَجِيبُ الدُّعَاءَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، أَوَّلُهَا عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ، الدُّعَاءُ فِيهِ مُسْتَجَابٌ، وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مُسْتَجَابٌ، وَتَحْتَ الْمِيزَابِ مُسْتَجَابٌ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ فِي الطَّوَافِ، وَخَلْفَ الْمَقَامِ، وَعَلَى الصَّفَا، وَعِنْدَ الْمَسْعَى، وَعَلَى الْمَرْوَةِ، وَبِمِنًى، وَبِعَرَفَاتٍ وَفِي الْمَوْقِفِ، وَبِجَمْعٍ، وَعِنْدَ الْجِمَارِ، يُسْتَجَابُ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا، فَاغْتَنِمْ يَا أَخِي هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُرْجَى فِيهَا الْمَغْفِرَةُ، وَاجْتَهِدْ فِيهِنَّ الدُّعَاءَ، فَإِنَّكَ إِنْ خَرَجْتَ مِنْهَا ذَهَبَتْ عَنْكَ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا، فَاعْمَلْ عَلَى ذَلِكَ

⦗٢٩٢⦘

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَمْ يُعْرَضْ وَلَمْ يُحَاسَبْ، وَقِيلَ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ " وَقَالَ فِي دُخُولِ الْكَعْبَةِ: " مَنْ دَخَلَهَا دَخَلَ فِي رَحْمَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي أَمْنِ اللهِ، وَفِي حَرَمِ اللهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهَا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، وَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ، فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ " قَالَ: وَجَاءَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِنْ أَيْنَ جِئْتُ؟ مَا زِلْتُ قَائِمًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَعْنِي تَحْتَ الْمِيزَابِ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ أُسْبُوعًا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ " ثُمَّ مَا أَعْلَمُ مِنْ بَلْدَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُكْتَبُ لِمَنْ يُصَلِّي فِيهَا رَكْعَةً وَاحِدَةً مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ مَا يُكْتَبُ بِمَكَّةَ، وَمَا أَعْلَمُ مِنْ بَلْدَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُكْتَبُ لِمَنْ صَامَ رَمَضَانَ بِمِائَةِ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يُكْتَبُ فِيهَا يَعْنِي بِمَكَّةَ ثُمَّ مَا أَعْلَمُ بَلْدَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُكْتَبُ لِمَنْ يَتَصَدَّقُ فِيهَا بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ مِائَةُ أَلْفٍ مَا يُكْتَبُ بِمَكَّةَ، ثُمَّ مَا أَعْلَمُ مِنْ بَلْدَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِيهَا شَرَابُ الْأَبْرَارِ وَطَعَامٌ طَعْمٌ إِلَّا بِمَكَّةَ يَعْنِي زَمْزَمَ ثُمَّ مَا أَعْلَمُ مِنْ بَلْدَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يُصَلِّي فِيهَا أَحَدٌ حَيْثُ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَقَالَ: فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى أَقْرَبَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَحْمَتِهِ مِنْهُ يَعْنِي الْمُصَلِّيَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ مَا أَعْلَمُ مِنْ بَلْدَةٍ يُطَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ كَمَا يُطَافُ بِالْبَيْتِ

⦗٢٩٣⦘

الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ: مَكْتُوبٌ فِي أَسْفَلِ الْمَقَامِ: أَنَا اللهُ ذُو بَكَّةَ، حَرَّمْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ ثُمَّ مَا أَعْلَمُ مِنْ بَلْدَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَنَّ أَحَدًا يَمْشِي فَيَكُونُ فِي مَشْيِهِ ذَلِكَ تَكْفِيرُ الْخَطَايَا وَتَحَاتُّ الذُّنُوبِ كَمَا تَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ الْيَابِسِ إِلَّا بِمَكَّةَ، وَهُوَ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْأَسْوَدِ وَيُقَالُ: إِنَّ الرُّكْنَ يَمِينُ اللهِ فِي أَرْضِهِ يُصَافِحُ بِهِ عِبَادَهُ، وَالرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ وَافَاهُمَا بِالْوَفَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِالطَّائِفِينَ، وَيُقَالُ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْ حَجٍّ مَبْرُورٍ فَإِيَّاكَ يَا أَخِي أَنْ تَبْرَحَ مِنْ مَكَّةَ، فَلَوْ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ فِلْسَانِ فِي حَرَمِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَجِدَ بِغَيْرِهِ أَلْفَيْنِ فَيْضًا مِنْ غَيْضٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ السَّعِيدَ مَنْ سَعِدَ بِقَضَاءِ اللهِ، وَالشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ بِقَضَاءِ اللهِ، وَالْأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ، وَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْزَمْ بَيْتَكَ، وَاشْتَغِلْ بِنَفْسِكَ، وَاسْتَأْنِسْ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ: إِنَّ دَاوُدَ بْنَ عِيسَى لَمَّا وَلِيَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ أَقَامَ بِمَكَّةَ زَمَانًا طَوِيلًا قَاطِنًا مُقِيمًا بِهَا، لَزِمَهَا عِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ نَحْوَهُ وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: كَتَبَ إِلَيْهِ يَحْيَى بْنُ مِسْكِينِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ مِخْرَاقٍ يَسْأَلُهُ التَّحَوُّلَ إِلَيْهِمْ، وَيُعْلِمُونَهُ أَنَّ مَقَامَهُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنْ مَقَامِهِ بِمَكَّةَ، وَأَهْدَوْا إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ شِعْرًا قَالَهُ شَاعِرٌ لَهُمْ، يَقُولُ فِيهِ:

⦗٢٩٤⦘

[البحر المتقارب]

أَدَاوُدُ قَدْ فُزْتَ بِالْمَكْرُمَاتِ ... وَبِالْعَدْلِ فِي بَلَدِ الْمُصْطَفَى

وَصِرْتَ ثِمَالًا لِأَهْلِ الْحِجَازِ ... وَسِرْتَ بِسِيرَةِ أَهْلِ التُّقَى

وَأَنْتَ الْمُهَذَّبُ مِنْ هَاشِمٍ ... وَفِي مَنْصِبِ الْعِزِّ وَالْمُرْتَجَى

وَأَنْتَ الرِّضَا لِلَّذِي نَابَهُمْ ... وَفِي كُلِّ حَالٍ وَابْنُ الرِّضَا

وَبِالْفَيْءِ أَغْنَيْتَ أَهْلَ الْخَصَاصِ ... فَعَدَلُكَ فِينَا هُوَ الْمُنْتَهَى

وَمَكَّةُ لَيْسَتْ بِدَارِ الْمُقَامِ ... فَهَاجِرْ كَهِجْرَةِ مَنْ قَدْ مَضَى

مَقَامُكَ عِشْرِينَ شَهْرًا بِهَا ... كَثِيرٌ لَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَى

وَهُمْ بِبِلَادِ الرَّسُولِ الَّتِي ... بِهَا اللهُ خَصَّ نَبِيَّ الْهُدَى

وَلَا يَلْفِتَنَّكَ عَنْ قُرْبِهِ ... مُشِيرٌ مَشُورَتُهُ بِالْهَوَى

فَقُرْبُ النَّبِيِّ وَآثَارُهُ ... أَحَقُّ بِقُرْبِكَ مِنْ ذِيِ طُوَى

قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ دَاوُدَ بْنَ عِيسَى الْكِتَابُ بِذَلِكَ مَعَ الْأَبْيَاتِ، أَرْسَلَ إِلَى رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَأَجَابَهُ رِجَالٌ مِنْهُمْ شِعْرًا فَقَالَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ السَّعْلَبُوسِيُّ قَصِيدَةً لَهُ يَذْكُرُ فِيهَا فَضْلَ مَكَّةَ وَمَا خَصَّهَا اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضِيلَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ فِي مَكَّةَ، وَيَذْكُرُ الْمَشَاعِرَ وَالْمَوَاضِعَ وَالْآثَارَ الَّتِي بِهَا، فَقَالَ:

[البحر المتقارب]

أَدَاوُدُ أَنْتَ الْإِمَامُ الرِّضَا ... وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ نَبِيِّ الْهُدَى

وَأَنْتَ الْمُهَذَّبُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ ... كَبِيرًا وَمِنْ قَبْلِهِ فِي الصِّبَا

وَأَنْتَ الْمُؤَمَّلُ مِنْ هَاشِمٍ ... وَأَنْتَ ابْنُ قَوْمٍ كِرَامٍ تُقَى

⦗٢٩٥⦘

وَأَنْتَ غِيَاثٌ لِأَهْلِ الْخَصَاصِ ... تَسُدُّ خَصَاصَتَهُمْ بِالْغِنَى

أَتَاكَ كِتَابُ جَحُودٍ حَسُودٍ ... أَسَا فِي مَقَالَتِهِ وَاعْتَدَى

يُخَيِّرُ يَثْرِبَ فِي شَعْرِهِ ... عَلَى حَرَمِ اللهِ حَيْثُ ابْتَنَى

فَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ فِيمَا يَقُولُ ... فَلَا يَسْجُدَنَّ إِلَى مَا هُنَا

فَأَيُّ بِلَادٍ سِوَى مَكَّةٍ ... وَمَكَّةُ مَكَّةُ أُمُّ الْقُرَى

وَبَيْتُ الْمُهَيْمِنِ فِيهَا مُقِيمٌ ... يُصَلَّى إِلَيْهِ بِرَغْمِ الْعِدَا

وَرَبِّي دَحَا الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا ... وَيَثْرِبُ لَا شَكَّ فِيمَا دَحَا

وَمَسْجِدُنَا بَيِّنٌ فَضْلُهُ ... عَلَى غَيْرِهِ لَيْسَ فِي ذَا مِرَا

صَلَاةُ الْمُصَلِّي تُعَدُّ لَهُ ... مِئِينَ أُلُوفِ صَلَاةٍ وَفَا

كَذَاكَ أَتَى فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ... وَمَا قَالَ حَقٌّ بِهِ يُقْتَدَى

وَأَعْمَالُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ وُفُودٌ إِلَيْنَا ... شَوَارِعُ مِثْلُ الْقَطَا

فَيَرْفَعُ مِنْهَا إِلَهِي الَّذِي ... يَشَاءُ وَيَتْرُكُ مَا لَا يَشَا

وَنَحْنُ يَحُجُّ إِلَيْنَا الْعِبَادُ ... وَيَرْمُونَ شُعْثًا بِوِتْرِ الْحَصَى

وَيَأْتُونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ... عَلَى أَيْنُقٍ ضُمَّرٍ كَالْقَنَا

لِيَقْضُوا مَنَاسِكَهُمْ عِنْدَنَا ... فَمِنْهُمْ شَتَاتٌ وَمِنْهُمْ مَعَا

فَكَمْ مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي بِصَوْتٍ ... حَزِينٍ يَرَى صَوْتَهُ قَدْ عَلَا

وَآخَرُ يَذْكُرُ رَبَّ الْعِبَادِ ... وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِحُسْنِ الثَّنَا

وَكُلُّهُمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ... يَؤُمُّ الْمُعَرَّفَ أَقْصَى الْمَدَى

فَظَلُّوا بِهِ يَوْمَهُمْ كُلَّهُ ... وُقُوفًا عَلَى الْجَبَلِ حَتَّى الْمَسَا

حُفَاةً ضُحَاةً قِيَامًا لَهُمْ ... عَجِيجٌ يُنَاجُونَ رَبَّ السَّمَا

رَجَاءً وَخَوْفًا لِمَا قَدَّمُوا ... فَكُلٌّ يُسَائِلُ دَفْعَ الْبَلَا

⦗٢٩٦⦘

يَقُولُونَ يَا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ... بِعَفْوِكَ وَاصْفَحْ عَمَّنْ أَسَا

فَلَمَّا دَنَا الْيَوْمُ مِنْ لَيْلِهِمْ ... وَوَلَّى النَّهَارُ أَجَدُّوا الْبُكَا

وَسَارَ الْحَجِيجُ لَهُمْ رَجَّةٌ ... فَحَلُّوا بِجَمْعٍ بُعَيْدَ الْعِشَا

فَبَاتُوا بِجَمْعٍ فَلَمَّا بَدَا ... عَمُودُ الصَّبَاحِ وَوَلَّى الدُّجَا

دَعَوْا سَاعَةً ثُمَّ شَدُّوا النُّسُوعَ ... عَلَى قُلُصٍ ثُمَّ أَمُّوا مِنَى

فَمِنْ بَيْنِ مَنْ قَدْ قَضَى نُسْكَهُ ... وَآخَرُ يَبْدَا بِسَفْكِ الدِّمَا

وَآخَرُ يَرْمُلُ حَوْلَ الطَّوَافِ ... وَآخَرُ مَاضٍ يَؤُمُّ الصَّفَا

فَآبُوا بِأَفْضَلَ مِمَّا نَوَوْا ... وَمَا طَلَبُوا مِنْ جَزِيلِ الْعَطَا

وَحَجَّ الْمَلَائِكَةُ الْأَكْرَمُونَ ... إِلَى أَرْضِنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى

وَآدَمُ قَدْ حَجَّ مِنْ بَعْدِهِمْ ... وَمِنْ بَعْدِهِ أَحْمَدُ الْمُصْطَفَى

وَحَجَّ إِلَيْنَا خَلِيلُ الْإِلَهِ ... وَهَجَّرَ بِالرَّمْيِ فِيمَنْ رَمَى

فَهَذَا لَعَمْرِي لَنَا رِفْعَةٌ ... حَبَانَا بِهَذَا شَدِيدُ الْقُوَى

وَمِنَّا النَّبِيُّ نَبِيُّ الْهُدَى ... وَفِينَا تَنَبَّا وَمِنَّا ابْتَدَى

وَمِنَّا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْكِرَامِ ... وَمِنَّا أَبُو حَفْصٍ الْمُرْتَجَى

وَمِنَّا عَلِيٌّ وَمِنَّا الزُّبَيْرُ ... وَطَلْحَةُ مِنَّا وَفِينَا نَشَا

وَعُثْمَانُ مِنَّا فَمَنْ مِثْلُهُمْ ... إِذَا عَدَّدَ النَّاسُ أَهْلَ التُّقَى

وَمِنَّا ابْنُ عَبَّاسِ ذُو الْمَكْرُمَاتِ ... نَسِيبُ النَّبِيِّ وَحِلْفُ النَّدَى

وَمِنَّا قُرَيْشٌ وَآبَاؤُهَا ... فَنَحْنُ إِلَى فَخْرِنَا الْمُنْتَهَى

وَمِنَّا الَّذِينَ بِهِمْ تَفْخَرُونَ ... فَلِمْ تَفْخَرُونَ عَلَيْنَا بِنَا

وَفَخْرُ أُولَاءِ لَنَا رِفْعَةٌ ... وَفِينَا مِنَ الْفَخْرِ مَا قَدْ كَفَى

وَزَمْزَمُ وَالْحِجْرُ فِينَا فَهَلْ ... لَكُمْ مَكْرُمَاتٌ كَمَا قَدْ لَنَا

⦗٢٩٧⦘

وَزَمْزَمُ طُعْمٌ وَشُرْبٌ لِمَنْ ... أَرَادَ الطَّعَامَ وَفِيهَا الشِّفَا

وَزَمْزَمُ تَنْفِي هُمُومَ الصَّدَى ... وَزَمْزَمُ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ دَوَا

وَلَيْسَتْ كَزَمْزَمَ فِي أَرْضِكُمْ ... كَمَا لَيْسَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ سَوَا

وَفِينَا سِقَايَةُ عَمِّ الرَّسُولِ ... وَمِنَّا النَّبِيُّ امْتَلَا وَارْتَوَى

وَفِينَا الْحَجُونُ فَأَكْرِمْ بِهِ ... وَفِينَا كُدَيٌّ وَفِينَا كَدَا

وَفِينَا الْمَقَامُ فَأَكْرِمْ بِهِ ... وَفِينَا الْمُحَصَّبُ وَالْمُخْتَبَى

وَفِينَا الْأَبَاطِحُ وَالْمَرْوَتَانِ ... فَبَخٍ فَمَنْ مِثْلُنَا يَا فَتَى

وَفِينَا الْمَشَاعِرُ مَنْشَا النَّبِيِّ ... وَأَجْيَادُ وَالرُّكْنُ وَالْمُتَّكَا

وَثَوْرٌ فَهَلْ عِنْدَكُمْ مِثْلُ ثَوْرٍ ... وَفِينَا حِرَاءٌ وَفِيهِ اخْتَبَا

نَبِيُّ الْإِلَهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ... وَمَعْهُ أَبُو بَكْرٍ الْمُرْتَضَى

وَكَمْ بَيْنَ أُحُدٍ إِذَا جَاءَ فَخْرٌ ... وَبَيْنَ الْقُبَيْسِيِّ فِيمَا تَرَى

وَبَلْدَتُنَا حَرَمٌ لَمْ تَزَلْ ... مُحَرَّمَةَ الصَّيْدِ فِيمَا خَلَا

وَيَثْرِبُ كَانَتْ فَلَا تَكْذِبَنْ ... حَلَالًا لَكُمْ بَيْنَ هَذَا وَذَا

فَحَرَّمَهَا بَعْدَ ذَاكَ النَّبِيُّ ... فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ كَذَا

وَلَوْ قُتِلَ الْوَحْشُ فِي يَثْرِبٍ ... لَمَا فُدِيَ الْوَحْشُ حَتَّى اللِّقَا

وَلَوْ قُتِلَتْ عِنْدَنَا نَمْلَةٌ ... أُخِذْتُمْ بِهَا أَوْ تُؤَدُّوا الْفِدَا

فَلَوْلَا زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ ... لَكُنْتُمْ كَسَائِرِ مَنْ قَدْ يُرَى

وَلَيْسَ النَّبِيُّ بِهَا ثَاوِيًا ... وَلَكِنْ بِبَطْنِ جِنَانِ الْعُلَا

فَلَا تُفْحِشَنَّ عَلَيْنَا الْمَقَالَ ... وَلَا تَنْطِقَنَّ بِقَوْلِ الْخَنَا

وَلَا تَفْخَرَنَّ عَلَيْنَا وَلَا ... تَقُلْ مَا يَشِينُكَ عِنْدَ الْمَلَا

وَلَا تَهْجُ بِالشِّعْرِ أَرْضَ الْحَرَامِ ... وَكُفَّ لِسَانَكَ عَنْ ذِي طُوَى

وَإِلَّا فَجَاءَكَ مَا لَا تُرِيدُ ... مِنَ الشَّتْمِ فِي يَثْرِبٍ وَالْأَذَى

⦗٢٩٨⦘

فَقَدْ يُمْكِنُ الْقَوْلُ فِي أَرْضِكُمْ ... بِسَبِّ الْعَقِيقِ وَوَادِي قُبَا

قَالَ: فَأَجَابَهُمَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عِجْلٍ نَاسِكٌ مُقِيمٌ بِجُدَّةَ مُرَابِطٌ، قَاضِيًا بَيْنَهُمَا بِقَصِيدَةٍ يَقُولُ فِيهَا:

[البحر الكامل]

إِنِّي قَضَيْتُ عَلَى اللَّذَيْنِ تَمَارَيَا ... فِي فَضْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَاسْأَلُوا

فَلَسَوْفَ أُخْبِرُكُمْ بِحَقٍّ فَافْهَمُوا ... وَالْحُكْمُ حِينًا قَدْ يَجُورُ وَيَعْدِلُ

وَأَنَا الْفَتَى الْعِجْلِيُّ جُدَّةُ مَسْكَنِي ... وَخِزَانَةُ الْحَرَمِ الَّذِي لَا تُجْهَلُ

وَبِهَا الْجِهَادُ مَعَ الرِّبَاطِ وَإِنَّهَا ... لَبِهَا الْوَقِيعَةُ لَا مَحَالَةَ تَنْزِلُ

مِنْ آلِ حَامٍ فِي أَوَاخِرِ دَهْرِنَا ... وَشَهِيدُنَا بِشَهِيدِ بَدْرٍ يُعْدَلُ

شُهَدَاؤُنَا قَدْ فُضِّلُوا بِسَعَادَةٍ ... وَبِهَا السُّرُورُ لِمَنْ يَمُوتُ وَيُقْتَلُ

يَا أَيُّهَا الْمَدَنِيُّ أَرْضُكَ فَضْلُهَا ... فَوْقَ الْبِلَادِ وَفَضْلُ مَكَّةَ أَفْضَلُ

أَرْضٌ بِهَا الْبَيْتُ الْمُحَرَّمُ قِبْلَةٌ ... لِلْعَالَمِينَ لَهُ الْمَسَاجِدُ تُعْدَلُ

حَرَمٌ حَرَامٌ أَرْضُهَا وَصُيُودُهَا ... وَالصَّيْدُ فِي كُلِّ الْبِلَادِ مُحَلَّلُ

وَبِهَا الْمَشَاعِرُ وَالْمَنَاسِكُ كُلُّهَا ... وَإِلَى فَضِيلَتِهَا الْبَرِيَّةُ تَرْحَلُ

وَبِهَا الْمَقَامُ وَحَوْضُ زَمْزَمَ مُتْرَعًا ... وَالْحِجْرُ وَالرُّكْنُ الَّذِي لَا يَرْحَلُ

وَالْمَسْجِدُ الْعَالِي الْمُمَجَّدُ وَالصَّفَا ... وَالْمَشْعَرَانِ وَمَنْ يَطُوفُ وَيَرْمُلُ

هَلْ فِي الْبِلَادِ مَحِلَّةٌ مَعْرُوفَةٌ ... مِثْلُ الْمُعَرَّفِ أَوْ مَحَلٌّ يُحْلَلُ

أَوْ مِثْلُ جَمْعٍ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا ... أَوْ مِثْلُ خَيْفِ مِنًى بِأَرْضٍ مَنْزِلُ

تِلْكُمْ مَوَاضِعُ لَا يُرَى بِرِحَابِهَا ... إِلَّا الدِّمَاءُ وَمُحْرِمٌ وَمُحَلِّلُ

⦗٢٩٩⦘

شَرَفًا لِمَنْ وَافَى الْمُعَرَّفَ ضَيْفُهُ ... شَرَفًا لَهُ وَلِأَرْضِهِ إِذْ يَنْزِلُ

وَبِمَكَّةَ الْحَسَنَاتُ يُضْعَفُ أَجْرُهَا ... وَبِهَا الْمُسِيءُ عَنِ الْخَطِيئَةِ يُسْأَلُ

يُجْزَى الْمُسِيءُ عَنِ الْخَطِيئَةِ مِثْلَهَا ... وَتُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ مِنْهُ وَتُقْبَلُ

مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَاخِرَ يَا فَتَى ... أَرْضًا بِهَا وُلِدَ النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ

وَبِهَا أَقَامَ وَجَاءَهُ وَحْيُ السَّمَا ... وَسَمَا بِهِ الْمَلَكُ الرَّفِيعُ الْمُنْزَلُ

وَنُبُوَّةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا أُنْزِلَتْ ... وَالدِّينُ فِيهَا قَبْلَ دِينِكَ أَوَّلُ

هَلْ بِالْمَدِينَةِ هَاشِمِيٌّ سَاكِنٌ ... أَوْ مِنْ قُرَيْشٍ نَاشِئٌ أَوْ مُكْهِلُ

إِلَّا وَمَكَّةُ أَرْضُهُ وَقَرَارُهُ ... لَكِنَّهُمْ عَنْهَا نَبَوْا فَتَحَوَّلُوا

فَكَذَاكَ هَاجَرَ نَحْوَكُمْ لَمَّا أَتَى ... إِنَّ الْمَدِينَةَ هِجْرَةٌ فَتَجَمَّلُوا

فَأَجَرْتُمُ وَوَلَيْتُمُ وَنَصَرْتُمُ ... خَيْرَ الْبَرِيَّةِ حَقُّكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا

فَضْلُ الْمَدِينَةِ بَيِّنٌ وَلِأَهْلِهَا ... فَضْلٌ قَدِيمٌ نُورُهَا يَتَهَلَّلُ

مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْفَضِيلَةَ فِيكُمُ ... قُلْنَا كَذَبْتَ وَقَوْلُ ذَلِكَ أَرْذَلُ

لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَيْسَ يَعْرِفُ فَضْلَكُمْ ... مَنْ كَانَ يَجْهَلُهُ فَلَسْنَا نَجْهَلُ

فِي أَرْضِكُمْ قَبْرُ النَّبِيِّ وَبَيْتُهُ ... وَالْمِنْبَرُ الْعَالِي الرَّفِيعُ الْأَطْوَلُ

وَبِهَا قُبُورُ السَّابِقِينَ بِفَضْلِهِمْ ... عُمَرٍ وَصَاحِبِهِ الرَّفِيقُ الْأَفْضَلُ

وَالْعِتْرَةُ الْمَيْمُونَةُ اللَّاتِي بِهَا ... سَبَقَتْ فَضِيلَةَ كُلِّ مَنْ يَتَفَضَّلُ

آلُ النَّبِيِّ بَنُو عَلِيٍّ إِنَّهُمْ ... أَمْسَوْا ضِيَاءً لِلْبَرِيَّةِ يَشْمَلُ

يَا مَنْ تَبُصُّ إِلَى الْمَدِينَةِ عَيْنُهُ ... فِيكَ الصَّغَارُ وَصَعْرُ خَدِّكَ أَسْفَلُ

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ يَذْكُرُ الْقُطُونَ وَالْمُقَامَ بِمَكَّةَ:

[البحر المديد]

قُلْتُ بِاللهِ ذِي الْجَلَالَةِ رَبِّ النَّاسِ ... إِلَّا اجْتَنَبْتِ أَنْ تَكْذِبِينَا

⦗٣٠٠⦘

فَرَأَتْ حِرْصِيَ الْفَتَاةُ فَقَالَتْ ... خَبِّرِيهِ بِعِلْمِ مَا تَكْتُمِينَا

نَحْنُ مِنْ سَاكِنِ الْعِرَاقِ وَكُنَّا ... قَبْلَهَا قَاطِنِينَ مَكَّةَ حِينَا

قَدْ صَدَقْنَاكَ إِذْ سَأَلْتَ فَمَنْ أَنْتَ ... عَسَى أَنْ يَجُرَّ شَأْنٌ شُؤُونَا

وَلَقَدْ قُلْتُ يَوْمَ مَكَّةَ سِرًّا ... قَبْلَ وَشْكٍ مِنْ بَيْنِكُمْ نَوِّلِينَا

<<  <  ج: ص:  >  >>