للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مستنجدًا به بكل كيانه. أذكر أني قرأت في مجلة كانت تصدر في أيام الحرب العالمية الثانية حديثًا لصحفيٍّ أجراه مع أحد الطيارين، وقد سأله الصحفي عن أحرج الساعات التي مرت به أثناء قيامه بواجبه، وما كان شعوره في تلك الساعة الحرجة، فأجابه الطيار بأنَّه نشأ في بيت ليس فيه ما يذكِّره بالله، فقد كان أبوه ملحدًا، ونشَّأَه على الألحاد، وكذا كان أخوته، وعند انخراطه بسلك الطيران استمرَّ في الحاده وإنكاره لكل شيء عدا ما يراه بعينه ويلمسه بيده، وفي أثناء قيامه بأعماله الحربية أحسَّ أن طائرته توشك أن تسقط، وأن الهلاك محتم، فإن لم يهلك بسقوط الطائرة فإنه سيهلك على يد العدو إذا وصل إلى الأرض سالمًا. قال الطيار: في تلك الساعة الحرجة لم أفكِّر في شيء على الأرض من أهلٍ أو قريبٍ أو صديقٍ أو زوجةٍ، وإنما رأيت نفسي وبلا شعور منِّي متوجهًا إلى الله تعالى، هاتفًا باسمه، طالبًا العون منه، وهكذا كان، فقد نجوت باعجوبة، والفضل في ذلك لله وحده، الذي لم أفكِّر فيه قط منذ ثلاثين سنة وهي عمري الآن. إنَّ هذه القصة صحيحة على ما أعتقد؛ إذ لا داعي لتلفيقها، بل وإنها تتكرَّر في كل يوم مئات المرات بأشكال آخرى. إنَّ الإنسان الغافل الناسي الذي لا يخطر بباله الله تعالى، يجد نفسه مدفوعًا إلى التوجّه إلى الله تعالى كُلَّمَا ألمَّت به مصيبة، أو وجد نفسه في ضيق، فالمريض الراقد في سريره أو في غرفة العمليات، وراكب الطائرة الذي يخبره قائدها أنَّ خطرًا يواجه الطائرة، هؤلاء لا يفكرون في تلك الساعة بشيء، ولا يخطر ببالهم شيء سوى الله تعالى، به يستجيرون وإليه يتوجهون. وصدق الله العظيم إذ يقول مخبرًا عن المشركين: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} ١.

إنَّ مسألة وجود الله من البدهيات التي لا توجد بدهية مثلها في الوضوح والظهور، بل نقول: إذا لم تصح هذه المسألة في العقول فلا يمكن مطلقًا أن تصحَّ مسألة أخرى غيرها، فليس هناك شيء عليه من الأدلة من حيث الكثرة والتنوع مثل مسألة وجود الله تعالى.

توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية:

٢٩- وتوحيد الربوبية وإفراد الله تعالى بجميع معانيها، يستلزم قطعًا توحيد


١ سورة لقمان. الآية: ٣٢.

<<  <   >  >>