للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

جميع أعماله، فإنَّ الله تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان خالصًا لوجه الكريم، ولكنَّ حاجة المسلم إلى الإخلاص تعظم وتشتد كلما كان علمه بطبيعته ظاهرًا أو متعلقًا بالآخرين، ولهذا قد يتسرَّب الوسواس إلى بعض الأتقياء، فيتركون الحسبة بحجّة عدم خلوص النية، ونقول لهؤلاء الطيبين الورعين: إنَّ عليهم أن يقوموا بالحسبة ويدفعوا هواجس الرياء، ولا يتعقَّموا في ذلك أو يسترسلوا في الخوف من الرياء؛ لأنَّ الشيطان قد يفتح عليهم بابًا من الوسواس الذي لا ينتهي.

٢٩٠- وقالوا: إنَّ المحتسب يلزمه الصبر والحلم بالإضافة إلى بقية الأخلاق الحسنة، والواقع أنَّ تأكيد فقهائنا -رحمهم الله تعالى- على الصبر والحلم له ما يبرره؛ لأنَّ الغالب لحوق الأذى والمضايقات بالمحتسب، فإن لم يكن صبورًا حليمًا كان ضرره أكبر من نفعه، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وفاته ما كان مرجوًّا من احتسابه.

٢٩١- وقالوا أيضًا: يجب أن يكون المحتسب رقيقًا رفيقًا في أمره ونهيه، بعيدًا عن الفظاظة مع صلابة بالدِّين، وقد يبدو قولهم لأوَّل وهلة متناقضًا؛ إذ كيف يتفق الرفق مع الصلابة، والحقيقة لا تناقض، فالرفق وعدم الفظاظة مِمَّا أمر به الشرع، فقد جاء في الحديث الشريف: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"، وفي القرآن الكريم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، فالمحتسب يستطيع أن يوصِّل أمره ونهيه بأسلوب رقيق يفتح مغاليق القلب، وسيأتي مزيد للكلام عن هذه المسالة فيما بعد إن شاء الله تعالى، أمَّا الصلابة بالدِّين فتعني: عدم التهاون في بيان أحكامه، ولا المداهنة للمحتسب عليه، ولا مجازاته على حساب الدِّين، وهذا لا يتناقض مع الرفق.

٢٩٢- وقالوا أيضًا: على المحتسب أن يقلل علاقاته مع الناس حتى لا يكثر خوفه من انقطاعها، وأن يقطع طمعه من الخلائق حتى تزول معاني الملق والمداهنة، وأن لا يقبل هداياهم فضلًا عن رشاواهم التي هي حرام وسحت، وأن يلزم أعوانه بما التزمه من الأخلاق والآداب، فإذا علم أن أحدًا من أعوانه خرج عن هذا النهج والسلوك عزله وأبعده إذا لم ينفع مع التحذير؛ لتنتفي عن المحتسب الظنون، وتنجلي عنه الشهبات، كما قال الفقهاء -رحمهم الله: لأنَّ الناس -غالبًا- يحمِّلُون المحتسب أوزار أعوانه، وقليل منهم من يفصل بين أعمالهم وأعماله، فلا خلاص من ذلك إلا بإبعاد الأعوان السيئين عنه.

<<  <   >  >>