للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

استقرار الأمور وجريان الأحكام على أسس ثابتة وقواعد مضبوطة، فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية الظاهر، وجعلت صحته ومطابقته لمتطلبات الشريعة قرينة على صحة الباطن وحله، ومناطًا لتعلُّق الحقوق وثبوت الآثار، ولكنَّ الشيء أو الفعل يبقى بالرغم من ذلك موصوفًا بالحِلِّ والحرمة بناءً على حقيقته الباطنة، وما يترتب على هذا الوصف من جواز الإقدام عليه أو تحريمه، وما يتبع ذلك من ثواب أو عقاب؛ لأنَّ الحكم حسب الظاهر لا يقلب الحلال حرامًا ولا الحرام حلالًا، وبالتالي لا يحِلُّ للمسلم أن يبيح لنفسه فعل الحرام أو أكله، وإن أباح له ذلك القضاء. يدل على ما قلناه قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار"، ولهذا إذا ظهر الباطن ظهورًا كافيًا، وتكشَّفت حقيقته، فالعبرة به لا بالظاهر.

إنَّ أهمية ما بينَّاه تظهر في حفظ حقوق الناس وكفِّ بعضهم عن بعض عن الاعتداء، ذلك أنَّ المسلم يعلم بأنَّ إقدامه على الحرام أو الاعتداء أو هضم حقوق الغير لا يفيده ولا يخلصه من المسئولية، وإن استطاع في الدنيا التخلص من المسئولية أو التهرب من القانون أو التحايل على القضاء، أو إخفاء حقيقة نفسه وفعله، إنَّ هذه الأمور لا تخفى على الله أبدًا، وسيحاسب عليها عند مثوله أمام المحكمة الإلهية الرهيبة في الآخرة، وعلى هذا الأساس فإنَّ المسلم لا يقدِم على شيء إلّا إذا كان حلالًا، ولا يطالب بشيء إلّا إذا كان له، وإن استطاع المطالبة بما ليس له، ولا يرتكب ما لا يحل له، وإن استطاع اخفاء ذلك عن القضاء، وبهذا تحفظ الحقوق ويأمن الناس عليها، وتقل الخصومات والمنازعات، ويقل عدد المراجعين للمحاكم، وفي هذا كله أعظم ضمان لحسن تنظيم علاقات الأفراد فيما بينهم، وعدم ضياع الحقوق على أصحابها، وهذا مما لا يوجد في القوانين الوضعية، فإنَّ المسألة عندها تنتهي بانتهاء صدور القرار من المحكمة ولا شيء بعد هذا؛ إذ لا سلطان للقوانين الوضعية على أمور الآخرة، وليس فيها المعاني التي ذكرناها.

<<  <   >  >>