للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واسعة بالعلوم الشرعية والعلوم الرياضية، وأكثر من هذا كان بارعًا في الموسيقى والنغم، وإن نظرة واحدة إلى الطريقة التي وضع بها علم العروض الذي اتفق الجميع على أنه هو الذي ابتدعه دون سابق مثال لتدلنا على أن الخليل كان ذا عقلية مبتكرة. وقد روى لنا في هذا أنه كان قد مر يومًا بمداد، فاستهواه دق المطرقة المنتظم، فلما حاول أن يربط بين هذه النغمات الرتيبة وبين الأوزان في الشعر العربي تم له ذلك باختراع علم العروض. وكانت التفصيلات التي استعملها الخليل كموازين للشعر، وتقطيع الأبيات على حسب تلك الموازين الذي يؤدي أحيانًا إلى شطر الكلمة الواحدة، أو ضم كلمة مع جزء أخرى لتكون وحدة عروضية معينة، كانت كل هذه الأشياء الجديدة على اللغويين الأول أشبه شيء بالألغاز. فقد ذكر لنا أن بعض علماء اللغة رحل إلى الخليل ليتعلم منه فنه الجديد، ولما لم يجد الخليل عنده الاستعداد الكافي لتقبله أراد أن يصرفه عنه بإشارة لطيفة حيث طلب منه أن يقطع هذا البيت:

إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع

ففطن ذلك اللغوي إلى غرضه، وترك علم العروض الذي لم يستطع تفهمه. حتى طبقة المثقفين من غير العلماء كانت تستغرب هذا الشيء الجديد الذي لم يكن مألوفًا ولا متعارفًا. فقد روي أن الخليل كان يومًا منشغلًا بتقطيع بعض الأبيات، فدخل عليه ابنه فاستوضح منه هذا الأمر، فما كان من الخليل إلا أن ترك له بطاقة مسجلًا عليها هذان البيتان:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أعلم ما تقول هذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

ومع الاتفاق على نسبة هذه الأبيات وغيرها للخليل، فإننا لا نستطيع أن نعده شاعرًا بالمعنى الكامل للكلمة. هذا علاوة على ما في البيتين السالفين من سمة التقسيم المنطقي الذي ينبئ على أن قائلهما عالم لا شاعر.

<<  <   >  >>