للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ: تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ يَتَوَلَّاهَا أَحَدُهُمْ بِرِضَا الِاثْنَيْنِ لِيَكُونُوا حَاكِمًا وَشَاهِدَيْنِ، كَمَا يَصِحُّ عَقْدُ النِّكَاحِ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: تَنْعَقِدُ بِوَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعَلِيٍّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: اُمْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَايَعَ ابْنَ عَمِّهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ اثْنَانِ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ وَحُكْمُ وَاحِدٍ نَافِذٌ.


١ قلت: وهذا كلام غريب وعجيب ينبغي الوقوف أمامه طويلًا؛ لبيان ما به من مخالفات لروح الشريعة الإسلامية، فما يدَّعيه البعض من أنَّ الخلافة تنعقد بستة أو بخمسة، أو حتى بواحد، كلام لا يقبل شرعًا ولا عقلًا.
فكيف نجيز لواحد أو خمسة أو ستة من أفراد الأمَّة، أو حتى عدة آلاف أن تعقد الإمامة لفردٍ ما دون الرجوع لرأي الأمة؟.
ثم إنَّ الخلافة لم تنعقد لأبي بكر بخمسة كما يدَّعي القائلون بذلك، ولم تنعقد لعثمان بستة كما يزعمون، فما فعله الخمسة في بيعة أبي بكر، أو الستة في بيعة عثمان لم تنعقد به الإمامة، إنَّما انعقدت بالبيعة العامَّة التي تمَّت بعد ذلك من جموع أفراد الأمة.
وعلى ذلك: فلا وزن لتلك المقولات التي ساقها بعض الفقهاء في عصور الضَّعف الإسلامي، والتي تقوي نفوذ الحكَّام، وتهوّن من شأن الأمَّة وأهل الحلِّ والعقد في الأمور السياسية.
فابن جماعة -مثلًا- وجدناه يفتح الباب على مصراعيه أمام أهل النفوذ والقوة المسيطرين على البلاد، ليطلبوا ما ليس لهم، ويجعل من ذلك حقًّا شرعيًّا!.
يقول ابن جماعة: "إن خلا الوقت من إمام فتصدَّى لها -يعني الإمامة- من ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته، ولزمت طاعته؛ لينتظم شمل المسلمين، ولا يقدح في إمامته كونه فاسقًا أو جاهلًا، ما دام قد تمَّت له الغلبة".
ليس هذا فحسب، بل إنَّه يذهب إلى أكثر من هذا فيقول: "وإذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد، ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول، وصار الثاني إمامًا، لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم".
كما كانت أفكار الوزير السلجوقي "نظام الملك"، من أبعد تلك الأفكار عن روح الإسلام في مسألة الحكم؛ إذ يقول: "إن السلطان تختاره العناية الإلهية مباشرة، وإنه مسئول مباشرة أمام الله".
ثم وجدناه هذه الأفكار التي صدرت عن نظام الملك تنتقل إلى الأندلس عن طريق محمد بن الوليد الطرطوشي، الذي يقول: "إنَّ حق السلطان في الحكم صادر عن إرادة الله، ومن ثَمَّ فهو ليس موضع مناقشة قط، وهناك بيان أو عهد بين الله تعالى والملوك، يُلْزِم الحاكم بمعاملة رعاياهم بالعدل والإنصاف والإحسان، أمَّا الحاكم الظالم فهو يعتبره بمثابة عقوبة من الله تعالى قدرَّها على عباده، جزاءً لهم على عصيانهم، ولذلك كان لزامًا عليهم أن يتحمَّلوا حكمه".
فهذه الأفكار وأمثالها التي تغثّ بها بعض الكتب القديمة والحديثة على السواء أفكار انهزامية، أصدرها أصحابها في محاولةٍ منهم لجمع كلمة المسلمين، وللتوفيق بين المصلحة العامَّة من حفظٍ لدماء المسلمين، والحفاظ على وحدتهم من التفرُّق والتشتت، وبين الشريعة.
وعلى أيِّ حالٍ فهي -كما قلنا- لا تعتبر سوابق دستورية ولا فتاوى يتَّكِأُ عليها اليوم أو غدًا، ذلك أنَّ لكل عصرٍ خصوصيته وظروفه.

<<  <   >  >>