للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فصل: "في وجوب معرفة الأمَّة لمن تولَّى أمرها"

فَإِذَا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمَنْ تَقَلَّدَهَا، إمَّا بِعَهْدٍ أَوْ اخْتِيَارٍ، لَزِمَ كَافَّةَ الْأُمَّةِ أَنْ يَعْرِفُوا إفْضَاءَ الْخِلَافَةِ إلَى مُسْتَحِقِّهَا بِصِفَاتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْرِفُوهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ، إلَّا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ الَّذِينَ تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ وَبِبَيْعَتِهِمْ تَنْعَقِدُ الْخِلَافَةُ.

وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ جَرِيرٍ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ، كَمَا عَلَيْهِمْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ.

وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ النَّاسِ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْإِمَامِ تَلْزَمُ الْكَافَّةَ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ، وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْرِفَهُ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ إلَّا عِنْدَ النَّوَازِلِ الَّتِي تُحْوِجُ إلَيْهِ، كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقُضَاةِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْأَحْكَامُ، وَالْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يُفْتُونَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، تَلْزَمُ الْعَامَّةَ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ، إلَّا عِنْدَ النَّوَازِلِ الْمُحْوِجَةِ إلَيْهِمْ، وَلَوْ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامَ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ لَلَزِمَتْ الْهِجْرَةُ إلَيْهِ، وَلَمَا جَازَ تَخَلُّفُ الْأَبَاعِدِ، وَلَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى خُلُوِّ الْأَوْطَانِ، وَلَصَارَ مِنَ الْعُرْفِ خَارِجًا، وَبِالْفَسَادِ عَائِدًا، وَإِذَا لَزِمَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ تَفْوِيضُ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ افْتِيَاتٍ عَلَيْهِ وَلَا مُعَارَضَةٍ لَهُ؛ لِيَقُومَ بِمَا وُكِّلَ إلَيْهِ مِنْ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَتَدْبِيرِ الْأَعْمَالِ، وَيُسَمَّى خَلِيفَةً لِأَنَّهُ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُمَّتِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى الْإِطْلَاقِ فَيُقَالُ: الْخَلِيفَةُ.

وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ؟ فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِقِيَامِهِ بِحُقُوقِهِ فِي خَلْقِهِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: ١٦٥] .

وَامْتَنَعَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ، وَنَسَبُوا قَائِلَهُ إلَى الْفُجُورِ وَقَالُوا: يُسْتَخْلَفُ مَنْ يَغِيبُ أَوْ يَمُوتُ، وَاَللَّهُ لَا يَغِيبُ وَلَا يَمُوتُ، وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ، فَقَالَ: لَسْتُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


١ الافتيات: السبق إلى الشيء دون ائتمار من يُؤْتمر، تقول: افتات عليه بأمر كذا، أي: فاته به، وفلان لا يفتات عليه، أي: لا يعمل شيء دون أمره، وتفاوت الشيئان: تباعد ما بينهما. "مختار الصحاح: ص٢١٥".

<<  <   >  >>