للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لَوْمَةَ لَائِمٍ هُوَ الْحُجَّةُ، وَقَدْ رَتَّبَهَا الرَّشِيدُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ بَنِيهِ؛ فِي الْأَمِينِ ثُمَّ الْمَأْمُونِ ثُمَّ الْمُؤْتَمَنِ، عَنْ مَشُورَةِ مَنْ عَاصَرَهُ مِنْ فُضَلَاءِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِذَا عَهِدَ الْخَلِيفَةُ إلَى ثَلَاثَةٍ رَتَّبَ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ وَمَاتَ وَالثَّلَاثَةُ أَحْيَاءُ، كَانَتِ الْخِلَافَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِلْأَوَّلِ؛ وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ كَانَتِ الْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّانِي، وَلَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فِي حَيَاةِ الْخَلِيفَةِ فَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ لِلثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ بِالْعَهْدِ إلَيْهِ حُكْمُ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَلَوْ مَاتَ الْخَلِيفَةُ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ عَهْدِهِ أَحْيَاءُ، وَأَفْضَتْ الْخِلَافَةُ إلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمْ، فَأَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى غَيْرِ الِاثْنَيْنِ مِمَّا يَخْتَارُهُ لَهَا، فَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ، إلَّا أَنْ يَسْتَنْزِلَ عَنْهَا مُسْتَحِقَّهَا طَوْعًا.

فَقَدْ عَهِدَ السَّفَّاحُ إلَى الْمَنْصُورِ -رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَجَعَلَ الْعَهْدَ بَعْدَهُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى، فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ تَقْدِيمَ الْمَهْدِيِّ عَلَى عِيسَى فَاسْتَنْزَلَهُ عَنِ الْعَهْدِ عَفْوًا لِحَقِّهِ فِيهِ، وَفُقَهَاءُ الْوَقْتِ عَلَى تَوَافُرٍ وَتَكَاثُرٍ لَمْ يَرَوْا لَهُ فُسْحَةً فِي صَرْفِهِ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ قَسْرًا حَتَّى اسْتَنْزَلَ وَاسْتَطْيَبَ.

وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ أَفْضَتْ إلَيْهِ الْخِلَافَةُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ، وَيَصْرِفُهَا عَمَّنْ كَانَ مُرَتَّبًا مَعَهُ، وَيَكُونُ هَذَا التَّرْتِيبُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْخِلَافَةَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَخْلِفِ، فَإِذَا أَفْضَتْ الْخِلَافَةُ مِنْهُمْ إلَى أَحَدِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى التَّرْتِيبِ صَارَ أَمْلَكَ بِهَا بَعْدَهُ فِي الْعَهْدِ بِهَا إلَى مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ بِإِفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ عَامَّ الْوِلَايَةِ، نَافِذَ الْأَمْرِ، فَكَانَ حَقُّهُ فِيهَا أَقْوَى، وَعَهْدُهُ بِهَا أَمْضَى، وَخَالَفَ هَذَا مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ تَرْتِيبِ أُمَرَائِهِ عَلَى جَيْشِ مُؤْتَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَيَاةِ؛ حَيْثُ لَمْ تَنْتَقِلْ أُمُورُهُمْ إلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا يَكُونُ بَعْدَ انْتِقَالِ الْأَمْرِ بِمَوْتِهِ إلَى غَيْرِهِ، فَافْتَرَقَ حُكْمُ الْعَهْدَيْنِ.

وَأَمَّا اسْتِطَابَةُ الْمَنْصُورِ نَفْسَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَأَلُّفَ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَهُمْ مُنْتَشِرٌ، وَفِي أَحْشَائِهِمْ نُفُورٌ مُوهِنٌ، فَفَعَلَهُ سِيَاسَةً، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ سَائِغًا؛ فَعَلَى هَذَا لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ إفْضَاءِ الْخِلَافَةِ إلَيْهِ، وَلَمْ يَعْهَدْ إلَى غَيْرِهِمَا، كَانَ الثَّانِي هُوَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ بِالْعَهْدِ الْأَوَّلِ، وَقُدِّمَ عَلَى الثَّالِثِ اعْتِبَارًا

<<  <   >  >>