للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حُكِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- كَتَبَ فِي اخْتِيَارِ وَزِيرٍ: إنِّي الْتَمَسْتُ لِأُمُورِي رَجُلًا جَامِعًا لِخِصَالِ الْخَيْر، ِ ذَا عِفَّةٍ فِي خَلَائِقِهِ وَاسْتِقَامَةٍ فِي طَرَائِقِهِ، قَدْ هَذَّبَتْهُ الْآدَابُ وَأَحْكَمَتْهُ التَّجَارِبُ، إنِ اؤتمن عَلَى الْأَسْرَارِ قَامَ بِهَا، وَإِنْ قُلِّدَ مُهِمَّاتِ الْأُمُورِ نَهَضَ فِيهَا، يُسْكِتُهُ الْحِلْمُ وَيُنْطِقُهُ الْعِلْمُ، وَتَكْفِيهِ اللَّحْظَةُ وَتُغْنِيهِ اللَّمْحَةُ، لَهُ صَوْلَةُ الْأُمَرَاءِ وَأَنَاةُ الْحُكَمَاءِ وَتَوَاضُعُ الْعُلَمَاءِ وَفَهْمُ الْفُقَهَاءِ، إنْ أُحْسِنَ إلَيْهِ شَكَرَ، وَإِنْ اُبْتُلِيَ بِالْإِسَاءَةِ صَبَرَ، لَا يَبِيعُ نَصِيبَ يَوْمِهِ بِحِرْمَانِ غَدِهِ، يَسْتَرِقُّ قُلُوبَ الرِّجَالِ بِخِلَابَةِ لِسَانِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضَ الشُّعَرَاءِ١ هَذِهِ الْأَوْصَافَ فَأَوْجَزَهَا، وَوَصَفَ بَعْضَ وُزَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِهَا فَقَالَ "من الوافر":

بَدِيهَتُهُ وَفِكْرَتُهُ سَوَاءٌ ... إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَى النَّاسِ الْأُمُورُ

وَأَحْزَمُ مَا يَكُونُ الدَّهْرَ يَوْمًا إذَا ... أَعْيَا الْمُشَاوِرُ وَالْمُشِيرُ

وَصَدْرٌ فِيهِ لِلْهَمِّ اتِّسَاعٌ ... إذَا ضَاقَتْ مِنَ الْهَمِّ الصُّدُورُ

فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ إذَا كَمُلَتْ فِي الزَّعِيمِ الْمُدَبِّرِ -وَقَلَّ مَا تَكْمُلُ- فَالصَّلَاحُ بِنَظَرِهِ عَامٌّ، وَمَا يُنَاطُ بِرَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ تَامٌّ؛ وَإِنْ اخْتَلَّتْ فَالصَّلَاحُ بِحَسَبِهَا يَخْتَلُّ، وَالتَّدْبِيرُ عَلَى قَدْرِهَا يَعْتَلُّ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ الشُّرُوطِ الدِّينِيَّةِ الْمَحْضَةِ فَهُوَ مِنْ شُرُوطِ السِّيَاسَةِ الْمُمَازِجَةِ لِشُرُوطِ الدِّينِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ وَاسْتِقَامَةِ الْمِلَّةِ.

فَإِذَا كَمُلَتْ شُرُوطُ هَذِهِ الْوَزَارَةِ فِيمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا فَصِحَّةُ التَّقْلِيدِ فِيهَا مُعْتَبَرَةٌ بِلَفْظِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَوْزِرِ؛ لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى عَقْدٍ، وَالْعُقُودُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ، فَإِنْ وَقَعَ لَهُ بِالنَّظَرِ وَأَذِنَ لَهُ لَمْ يَتِمَّ التَّقْلِيدُ، حُكْمًا، وَإِنْ أَمْضَاهُ الْوُلَاةُ عُرْفًا حَتَّى يَعْقِدَ لَهُ الْوَزَارَةَ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: عُمُومُ النَّظَرِ.

وَالثَّانِي: النِّيَابَةُ.


١ هو أشجع بن عمرو السلمي من وَلَد الشريد بن مطرود، رُبِّي ونشأ بالبصرة، ثم خرج إلى الرقة والرشيد بها، فمدح البرامكة وانقطع إلى جعفر خاصَّة وأصفاه مدحه، ووصله الرشيد وأعجبه وأثرت حاله في أيامه وتقدَّم عنده.

<<  <   >  >>