شعبة، عن أبي إسحق قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كتب عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِتَابًا بَيْنَهُمْ قَالَ: فَكتب: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لا نَكتب مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ قَالَ: فقال لعلي: «امحه» قال: فقال: أما أَنَا بِالَّذِي أَمْحَاهُ، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، الْحَدِيثَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب ذَلِكَ بِيَدِهِ، وَعَدَّ ذَلِكَ مَنْ وَقَفَ عِنْدَهُ مُعْجِزَةً لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَمَا شَهِدَ به القرآن من أن النَّبِيُّ الأُّمِّيُّ الَّذِي لا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ مَعَ مَا كَانَ يَأْتِي بِهِ مِنْ أَقَاصِيصِ الأَوَّلِينَ، وَأَخْبَارِ الأُمَمِ الْمَاضِينَ، هُوَ الْمُعْجِزَةُ الْعُظْمَى، لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ تَكْذِيبِ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى عِلْمٍ تَلَقَّاهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ مِمَّنْ قَالَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ. وَهَذَا عَلَمٌ عَظِيمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ، وَأَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ دَلائِلِ صِدْقِهِ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِنَّمَا يَتَلَقَّى ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَلامَةُ هَذَا الأَصْلِ مِنْ شُبْهَةٍ قَدْ تَرَكَتْ لِلْمُلْحِدِ حُجَّة فِي مُعَارَضَتِهِ وإن بعدت أولى. وَذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ أَنَّهُ كتب، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الأَنْدَلُسِ، فَبَعَثَ إِلَى الآفَاقِ يَسْتَفْتِي بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَجُلُّهُمْ قَالَ، لَمْ يَكتب النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ قَطُّ، وَرَأَوْا ذَلِكَ مَحْمُولا عَلَى الْمَجَازِ، وَأَنَّ مَعْنَى كتب: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْهُمْ: كتب. وَجَرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَوْمًا بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا الإِمَامِ أَبِي الْفَتْحِ الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، فَلَمْ يَعْبَأْ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ كتب، وَقَالَ عَنِ الْبَاجِي: هُوَ قَوْلُ أَحْوجه إِلَى أَنْ يَسْتَنْجِدَ بِالْعُلَمَاءِ مِنَ الآفَاقِ.
وَأَبُو جَنْدَلٍ اسْمُهُ: الْعَاصِي، وَهُوَ أَخُو عَبْد اللَّهِ بْن سُهَيْلٍ، شَهِدَ عَبْدُ اللَّهِ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِسْلامُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِ أَبِي جَنْدَلٍ الْفَتْحُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِيُعْرَفَ [١] الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ أَلَّفَ فِي الصَّحَابَةِ سُمِّيَ أَبَا جَنْدَلٍ عَبْدَ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَرَجَعَ أَبُو جَنْدَلٍ إِلَى مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي جِوَارِ مِكْرَزِ بْن حَفْصٍ، فِيمَا حَكَى ابْن عَائِذٍ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللَّه سُبْحَانَهُ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَخْصُوصٌ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصُّلْحِ، وَكَانَ الامْتِحَانُ أَنْ تُسْتَحْلَفَ الْمَرْأَةُ الْمُهَاجِرَةُ أَنَّهَا مَا هَاجَرَتْ نَاشِزًا، وَلا هَاجَرَتْ إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَإِذَا حَلَفَتْ لَمْ تُرَدَّ، وَرُدَّ صَدَاقُهَا إِلَى بَعْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ تُسْتَحْلَفْ وَلَمْ يُرَدَّ صَدَاقُهَا. وَعَيْبةٌ مَكْفُوفَةٌ: أَيْ صُدُورٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى مَا فِيهَا لا تُبْدِي عَدَاوَةً. وَالإِغْلالُ: الْخِيَانَةُ. والإسلال: السرقة.
[ (١) ] وفي نسخة: ليعلم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute