للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رَسْلِكَ يَا جَارُودُ، فَلَسْتُ أَنْسَاهُ بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ [١] وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلامٍ مَا أَظُنُّ أَنِّي أَحْفَظُهُ» ،

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي أَحْفَظُهُ، كُنْتُ حَاضِرًا ذَلِكَ اليوم بسوق عكاظ، فقال في خطبته: يا أيها النَّاسُ:

اسْمَعُوا وَعُوا، وَإِذَا وَعَيْتُمْ فَانْتَفِعُوا، إِنَّهُ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، مَطَرٌ وَنَبَاتٌ، وَأَرْزَاقٌ وَأَقْوَاتٌ، وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ، وَأَحْيَاءٌ وَأَمْوَاتٌ، جَمْعٌ وَأَشْتَاتٌ، وَآيَاتٌ بَعْدَ آيَاتٍ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَرًا، لَيْلٌ دَاجٍ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَأَرْضٌ ذَاتُ رِتَاجٍ، وَبِحَارٌ ذَاتُ أَمْوَاجٍ مَالِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلا يَرْجِعُونَ، أَرَضَوْا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا، أَمْ تُرِكُوا هُنَاكَ فَنَامُوا، أَقْسَمَ قِسٌّ قَسَمًا لا حَانِثًا فِيهِ وَلا آثِمًا: إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَنَبِيًّا قَدْ حَانَ حِينُهُ وَأَظَلَّكُمْ أَوَانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِهِ فَهَدَاهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ وَعَصَاهُ، ثُمَّ قَالَ: تَبًّا لأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ مِنَ الأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ، يَا مَعْشَرَ إِيَادٍ: أَيْنَ الآبَاءُ وَالأَجْدَادُ، وَأَيْنَ الْمَرِيضُ وَالْعُوَّادُ، وَأَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ الشِّدَادُ، أَيْنَ مَنْ بَنَى وَشَيَّدَ، وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ، وَغَرَّهُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ، أَيْنَ مَنْ بَغَى وَطَغَى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى، وَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى، أَلَمْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ أَمْوَالا، وَأَطْوَلَ مِنْكُمْ آجَالا، وَأَبْعَدَ مِنْكُمْ آمَالا، طَحَنَهُمُ الثَّرَى بِكَلْكَلِهِ وَمَزَّقَهُمْ بِتَطَاوُلِهِ، فَتِلْكَ عِظَامُهُمْ بَالِيَةٌ، وَبُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ، عَمَّرَتْهَا الذِّئَابُ الْعَاوِيَةُ، كَلا:

بَلْ هُوَ اللَهُ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ، ليس بوالد ولا مولد، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

فِي الذَّاهِبِينَ الأَوَّلِينَ ... مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرُ

لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا ... لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرُ

وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا ... تَمْضِي الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر

أيقنت أنى لا محا ... لة حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرُ

قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ، وَقَامَ رَجُلٌ أَشْدَقُ أَجَشُّ الصَّوْتِ فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ قِسٍّ عَجَبًا، خَرَجْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي، حَتَّى إِذَا عَسْعَسَ اللَّيْلُ وَكَادَ الصُّبْحُ أن يتنفس هتف بي هاتف يقول:

يا أيها الرَّاقِدُ فِي اللَّيْلِ الأَحَمّ ... قَدْ بَعَثَ اللَّهُ نبيا في الحرم


[ (١) ] الأورق: هو الأبيض المائل إلى السواد.

<<  <  ج: ص:  >  >>