وذلك أنهم يرون موضع الطعن على حسان إنما هو قوله: الغر، وكان ممكناً أن يقول: البيض، لان الغرة: بياض قليل في لون آخر غيره كثير، وقالوا فلو قال: البيض، لكان أكثر من الغر.
وفي قوله: يلمعن بالضحى، ولو قال: بالدجى، لكان أحسن.
وفي قوله: وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً، قالوا: ولو قال: يجرين، لكان أحسن، إذ كان الجري أكثر من القطر.
فلو أنهم يحصلون مذاهبهم لعلموا أن هذا المذهب في الطعن على شعر حسان غير المذهب الذي كانوا معتقدين له من الإنكار على مهلهل، والنمر، وأبي نواس، لأن المذهب الأول إنما هو لمن أنكر الغلو، والثاني لمن استجاده، فإن النابغة - على ما حكى عنه - لم يرد من حسان إلا الإفراط والغلو بتصييره مكان كل معنى وضعه ما هو فوقه وزائد عليه، وعلى أن من أنعم النظر علم أن هذا الرد على حسان من النابغة - كان أو من غيره - خطأ بين، وأن حسان مصيب، إذ كانت مطابقة المعنى بالحق في يده، وكان الراد عليه عادلاً عن الصواب إلى غيره.
فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: الغر، أن يجعل الجفان بيضاً، فإذا قصر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله: الغر، المشهورات، كما يقال يوم أغر ويد غراء، وليس يراد البياض في شيء من ذلك، بل تراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: يلمعن بالضحى، أنه لو قال: بالدجى، لكان أحسن من قوله: بالضحى، إذ كل شيء يلمع بالضحى، فهو خلاف الحق وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء، مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك الكواكب، وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا، دائماً تلمع