إلى الوجه الذي يجذبهن إلى أن يملن إليه، والذي يميلهن إليه هو الشمائل الخلوة، والمعاطف الظريفة، والحركات اللطيفة، والكلام المستعذب، والمزاح المستغرب، ويقال لمن يتعاطى هذا المذهب من الرجال والنساء: متشاج، وإنما هو متفاعل من الشجا، أي متشبه بمن قد شجاه الحب.
وإذ قد بان أن الذي قلناه على ما قلنا، فيجب أن يكون النسيب الذي يتم به الغرض هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة، أكثر مما يكون فيه من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة، أكثر مما يكون فيه من الإباء والعز، وأن يكون جماع الأمر ما ضاد التحفظ والعزيمة، ووافق الانحلال والرخاوة، فإذا كان النسيب كذلك فهو المصاب به الغرض.
وقد يدخل في النسيب التشوق والتذكر لمعاهد الأحبة بالرياح الهابة، والبروق اللامعة، والحمائم الهاتفة، والخيالات الطائفة، وآثار الديار العافية، وأشخاص الأطلال الداثرة.
وجميع ذلك إذا ذكر احتيج أن تكون فيه أدلة على عظيم الحسرة، ومرمض الأسف والمنازعة، ولست أذكر متى سمعت في التشوق بآثار الديار أوجز ولا أجمع ولا أدل على لاعج الشوق ومكمد الوجه من قول محمد بن عبيد السلاماني أحد، بني سلامان بن مفرج من الأزد:
فلم تدعِ الأرواحُ والماءُ والبلَى ... من الدار إلا ما يشوقُ ويشغفُ
ولعمري ان عمرو بن أحمر الباهلي قد أوجز وأبان عن شديد تشوق وعظيم تحسر بقوله:
معارفُ تلوى بالفؤاد وإن تقلْ ... لها بينِي لي حاجةً لم تكلمِ
فأما قوله: إنها لم تكلم، فهو تجاهل الهائم وتدله الواله، فإنه قد يحتاج إلى أن يكون في شعر الوامق التحير وآية التلدد.
وممن شاقته المنازل صخر الخضري، وقد مر على ربع كانت خلته كأس تحله، فقال:
بليتُ كما يبلَى الرداءُ ولا أرَى ... جناباً ولا أكنافَ ذروةَ تخلقُ
ألوِّى حيازيميِ بهنَّ صبابةً ... كما يتلوى الحيةُ المتشرقُ
وممن شافه البرق، فأحسن وصف ما يثيره من الشوق: حبيش ابن نطر العامري، حيث يقول ويذكر خفقان قلبه: