للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أول من أشهر مصطلح الحديث الحسن]

نحن ذكرنا أن هذا الكلام كان معروفاً عند العلماء السابقين، فإنهم كانوا يعرفون مصطلح الحسن والجيد والمقبول، وغير ذلك من المصطلحات، لكن أول من أشهر ذلك: الإمام الترمذي؛ لأنه أكثر من استعمال هذه المصطلحات في كتابه السنن.

ودائماًَ الفضل ينسب للذي أشهر الشيء، لا لمن ابتكره، كالمذهب الظاهري أشهره ابن حزم، مع أن الذي أسسه هو داود بن علي الظاهري، وتبعه ابن حزم على منهجه، ثم صنف فيه المصنفات العظام التي بسببها انتشر المذهب، فعندما تذكر الظاهرية يكون في الذهن ابن حزم، وداود لا يذكر.

والإمام الشافعي يقول فيه أهل العلم: إن له الفضل على كل من تشفع -أي: كل من تمذهب بمذهبه- إلا الإمام البيهقي؛ لأنه هو الذي نصر مذهب الإمام الشافعي بكثرة ما صنف فيه، فقد صنف الإمام البيهقي كتاب السنن الكبرى وهو حوالي عشرة مجلدات كبيرة ينصر فيها المسائل التي قال بها الإمام الشافعي.

فالإمام الترمذي هو الذي أكثر وأشهر مصطلح الحديث الحسن، مع أنه كان معروفاً عند البخاري وأحمد بن حنبل وغيرهم ممن كان قبل الإمام الترمذي.

والإمام الترمذي أحياناً يقول عن حديث: حسن صحيح، وأحياناً يقول: حسن صحيح غريب، وأحياناً يقول: حسن غريب، وأحياناً يقول: صحيح غريب، وأحياناً يقول: غريب فقط، أو حسن فقط، أو صحيح فقط، وهذا ملاحظ في كلام الإمام الترمذي في السنن، وكل مصطلح من هذه المصطلحات له مدلول عند الإمام الترمذي، ولا تظن أنه يأتي بهذه المصطلحات هكذا.

إذا قال الإمام: هذا حديث حسن صحيح غريب، فالغرابة هنا تعني: أن هذا الحديث ليس له إلا ذلك الإسناد، فهذا يحمل على التفرد، أي: ليس له إلا إسناد واحد، فالغرابة يقصد بها هنا الغرابة الاصطلاحية؛ لأن الغرابة نوعان: غرابة نسبية وغرابة مطلقة.

والغرابة تعني التفرد، والتفرد يعني: أن الحديث ليس له إلا طريق واحد.

فإذا قال: حسن صحيح غريب، يعني ذلك: أن الحديث ليس له إلا إسناد واحد.

وقوله: (حسن صحيح) العلماء يقولون: لو جمع إلى (حسن صحيح) كلمة (غريب)؛ فإنما يعني أن الحديث ليس له إلا إسناد واحد، وقوله: (حسن صحيح) يعني: أن في الإسناد راوياً اختلف العلماء فيه بين تمام الضبط وبين خفة الضبط.

فعندما يقول الترمذي: حديث حسن صحيح غريب؛ فلأنه في الغالب يكون في هذا الإسناد راوٍ اختلف أهل الجرح والتعديل في ذلك الراوي، فمنهم من قال: ثقة، ومنهم من قال: صدوق، أي: أن منهم من قال: هو تام الضبط، ومنهم من قال: هو خفيف الضبط.

والإمام الترمذي لم يستطع الاجتهاد في حق ذلك الراوي، فقال: أنا سأجمع بين أقوال أهل العلم في هذا الراوي، فسأقول: حسن صحيح، وهذا حقه أن يأتي بحرف الشك، فيقول: حسن أو صحيح، ولكنه اختصر ذلك فقال: حسن صحيح، يعني: حسن باعتبار قوم، صحيح باعتبار آخرين، يعني: أن هذا الحديث حسن عند من قال: إن ذلك الراوي صدوق، وصحيح عند من قال: إن ذلك الراوي ثقة.

فإذا قال الترمذي عن إسناد: حسن صحيح غريب؛ فإنما يكون هذا حديثاً ليس له إلا إسناد واحد، اختلف النقاد في أحد رواة ذلك الإسناد، فمنهم من قال: هو ثقة، ومنهم من قال: هو صدوق، ولم يترجح لدى الإمام الترمذي مدى صدق من قال: ثقة حتى يرجح التوثيق، ولا صدق من قال: صدوق حتى يرجح الصدق؛ فجمع بين اللفظين، غاية ما فيه أنه حذف حرف الشك، وكان حقه أن يقول: حسن أو صحيح، ولكنه اختصر ذلك فقال: حسن صحيح، وقال: غريب؛ لأنه ليس له إلا إسناد واحد.

فإذا حذف كلمة (غريب) ففيه أحد أمرين: إما أن يكون هذا الحديث له إسناد واحد أو إسنادين، فإن كان له إسناد واحد فغاية ما في ذلك: أنه لم يذكر كلمة غريب، كما في الحالة الأولى، وكما حذف حرف الشك هناك حذف كلمة غريب هنا، ويرجع الأمر إلى اختلاف النقاد أو نفس الراوي، فحين يقول: حسن صحيح، أي: حسن باعتبار قوم، وصحيح باعتبار قوم آخرين؛ لاختلافهم في ذلك الراوي الذي روى الحديث.

وإما أن يكون الحديث له إسنادان، إسناد منها أحد رواته صدوق، والإسناد الآخر كله ثقات، فالإسناد الذي في رواته راوٍ صدوق قال عنه: حسن، والإسناد الذي كل رواته ثقات قال عنه: صحيح، وغاية ما في ذلك أنه كان يجب أن يجمع ويقول: حسن وصحيح، أي: حسن باعتبار الإسناد، ليس باعتبار النقاد، وصحيح باعتبار الإسناد الآخر؛ لأن هذا الحديث أتى من طريقين، أو من غير وجه، فيقول في هذه الحالة: حسن وصحيح، وغاية ما في هذا أنه حذف أداة العطف وقال: حسن صحيح.

فإن قيل: أيهما أقوى قول الترمذي: حسن صحيح، أو صحيح فقط؟ ف

الجواب

أن ذلك متوقف على معرفة ما إذا كان للحديث إسناد أو أكثر، فإن كان للحديث إسناد واحد فلا شك أن قو

<<  <  ج: ص:  >  >>