حد فعلاً من سلطانها، ولئن كان لم يتح له أن ينمو نمواً كاملاً في التاريخ، فإنه لم يفقد حيويته فقداناً كاملاً. وشأنه في ذلك شأن بذرة مستودعة باطن التربة، تظل الحياة مختزنة فيها إلى أن تجد الشروط البيولوجية لنموها وتطورها، وبالمثل يستطيع (الجنين) الإسلامي أن ينشط في شروط تاريخية جديدة. وهذه الشروط إنما تصدر عن الضمير المسلم، وعن موقفه في الظروف التي يمر بها الآن العالم المسمم بجرثومة (القوة). ومع ما تحدثه البذرة الأخلاقية الإسلامية في حل المأساة العالمية ندرك ما يمكن أن تمنحه بذرة كهذه- حين ينشطها مبدأ (عدم العنف) - من معنى لرسالة السلام، وهو السلام الذي يحمله مليار من أبناء البلدان المتخلفة كيما يضعوا حداً للحرب، كما فعل من قبل جمهور إنساني مسلح بإيمانه فحسب، يقوده البابا ليون الأول ( Léon) حين أوقف أتيلا ( Attila) قائد الهونجر على أبواب مدينة مانتو.
ولكن إذا كان الإسلام حين استودع بذرة كهذه في الضمير المسلم قد أمنها من السيطرة الزمنية، فلقد حصنها من ناحية أخرى ضد الاستبداد الروحي، فإن هناك مبدأ آخر يعلن في قوة حصانة الضمير الإنساني، {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: ٢/ ٢٥٦].
هكذا حددت الثقافة الإسلامية خطر السيطرة زمنياً وروحياً، كما يحدد الخطر في البحر علاماته على سطح الماء، ولو أننا عدنا إلى الماضي لأدركنا أن الحكم الإسلامي قد اتبّع تقريباً في هذا المجال طريقاً وسطاً بين هذين المبدأين اللذين كانا بمثابة حاجز يحول بين تطوره وبين أن يغرق في (إرادة القوة). ومما يلقي ضوءاً على هذا المعنى أن التاريخ الإسلامي، حتى في فصل الفتوحات التي ربما أدمت حقيقته قلب إقبال- لم ينم هذه الفكرة الاستعمارية التي تحول كل فتح إلى مشروع هدم متعمد، أخلاقي ومادي. فإذا كان المبدأ الأول قد حدد نتائجه في الإطار الزمني فإن المبدأ الثاني قد حددها في الإطار الروحي.