لقد تأصلت فكرة (الأفرسيوية) في الأزمة التي تحكم التطور الإنساني منذ نصف قرن. فهي تنم عن أحد مظاهرها، وعن إحدى نتائجها. وهي تمثل أيضاً وسائل حلها. ولقد وُلدت هذه الأزمة من النظم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية للقرن العشرين، مقدمة بذلك إلى من تنبؤوا بها- مثل ديستويفسكي ونيتشه- موضوعات عن قيام الحضارة وانهيارها.
ولكن ما إن حل عام ١٩١٤م حتى تجاوزت الأزمة هذا المظهر الفكري والميتافيزيقي لكي تمس مباشرة شعوب الأرض؛ وأفراد البشر؛ تمس دماءهم وجلودهم. وبلغت الأزمة منتهى شدتها حين وجد العالم- الذي تورط في مأساة لا حل لها- نفسه على حدود تاريخه في عام ١٩٣٩م، فلم يستطع أن يمضي في طريقه إلى أبعد من هذه الحدود، لأنه كان قد استنفد قدراً كبيراً من زاده بالحرب العالمية الأولى. فلم يستطع أن يتقوت خلال حرب عالمية ثانية في إطار تلك النظم البالية والتنظيمات الجغرافية والسياسية التي قسمته إلى كتلتين متميزتين: كتلة (الشعوب المتحضرة) التي تسكن أوروبا وأمريكا، وكتلة (الشعوب المستعمرة) التي تسكن آسيا وإفريقية.
كان العالم إذن قد استنفد كل إمكانياته، فإذا به يجد نفسه عام ١٩٣٩م في نهاية مرحلة حاسمة. لقد قادته القوى التي مزقته داخلياً إلى مصير واحد على الرغم من تعارضها، قادته إلى التحلل، قاده الاستعمار والعنصرية إلى النهاية المحتومة: إلى الحرب العالمية الثانية.