للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إن الفكرة الغربية التي تحكم العالم الآن قد ورثت عن أصولها الهلينية ذوقاً مطبوعاً بطابع الجمال. والفكرة الإسلامية قد قامت على محور المبدأ الأخلاقي، فالحقيقة هنا تُعرف (بالحق) وتعرف هناك (بالجمال) وكلتا الفكرتين تكمل الأخرى: ولكن حينما يلزم التضحية بعنصر منهما فإن المبدأ الإسلامي لا يتردد في أن يضحي بالجمال من أجل الحق، وهذا الاختيار لا يقوم على أساس عقلي، بل بتأثير الآلية النفسية، والدوافع الداخلية الكامنة في (الطبيعة) المسلمة، وبتأثير إرادة أخلاقية سجلت طابعها على إنتاج العبقرية الإسلامية كله، تلك العبقرية التي لا تهتم كثيراً بأن تخلق في العالم أشكالاً وصوراً، وأن تجمّل (الحقيقة) باستعمال بعض المساحيق.

فهذا الغرام (بالحقيقة) في العالم الإسلامي قد يفسر طابع الفن الإسلامي. فهو بحكم (طبيعته) في خط هذه (الحقيقة) المجردة، التي لا يساعد جوها على خلق ما يسمى بالقصة الخيالية مثلاً. ولئن كانت قصة (حي بن يقظان) قد صدرت عن عبقرية ابن الطفيل، فلأن (الحقيقة) التي تعبر عنها ذات طابع أخلاقي، ولأن العنصر الجمالي لم يقصد فيها إلا تابعاً لعملية الخلق والإبداع في موضوع أخلاقي، وليس هو مطلقاً موضوعها وجوهرها.

والحق أن العالم الإسلامي قد انتظر نموذج الأدب الغربي العاصر كيما يكتشف (القصة) ويتذوقها وذلك منذ ألمحاولات الأولى لدرسة (المنفلوطي) فالفكر الإسلامي مطبوع بطابع التحفظ والدقة التي لا تشبه طبعاً ما يسمى (الدقة العلمية)، ولكنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار في مضمون حضارة حديثة ضحت بالدقة الخلقية، فضحت بالمبادئ من أجل الشكليات والمصالح. لقد قال روبسبيير ( Robespierre) مثلاً: ((فلتسقط المستعمرات ولتحي المبادئ)) ... ولكن بقيت المستعمرات وضاعت المبادئ. إن العصر الذري الذي نعيش فيه لا حاجة به إلى حساب مدقق- فالحساب لم يتقدم في الدقة إلا مع العقل الالكتروني- الذي يستخدمونه اليوم، وإنما هو في حاجة إلى بعض المبادئ المدققة النزيهة التي

<<  <   >  >>