العالم القديم، وكانوا قد وجدوا في بوتسدام ( Potsdam) ظروف طمأنينتهم، وهكذا بدا التاريخ وكأنه سائر في طريقه الهادئ بالنسبة إلى قوم، وراجع القهقرى بالنسبة إلى آخرين.
لقد سجلت الحرب العالمية الأولى أيضاً محاولات كهذه، فوقع حظ الإنسانية تحت رحمة (الحق والحضارة) وشاعت (الشعارات) نفسها لتحرك الشعوب من أجل إنقاذ الديمقراطية، وشاعت الكلمات نفسها:(حرية- سلام- عمل). تلك الكلمات التي تعبر عن المثالية الإنسانية في منتهى تواضعها، وفي ذروة سموها جميعاً. وكانت مبادئ الرئيس (ولسن) الأربعة عشر قد أعلنت- قبل أن يعلن ميثاق الأطلنطي- حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها.
فقد وجدنا أنفسنا إذن في عام ١٩٤٥م في الأوضاع نفسها التي كنا فيها عام ١٩١٩م، أي في حضارة لم تتغير مضامينها وادعاءاتها، فالأمم المتحدة لم يكن يمكنها إذن إلا أن تكون طبعة ثانية من عصبة الأمم، وروزفلت لم يكن يمكنه إلا أن يكون تعقيباً على ولسن، الوجه الجميل نفسه، فإن الأسباب النفسية الواحدة تنتج الآثار السياسية نفسها.
والعالم المتحضر الذي لم يعدل أفكاره المجلوبة من (العالم المستعمر) لم يكن ليعدل حياله خطته السياسية، فظلت هذه الخطة- بالتالي- امتداداً لاستعمار القرن التاسع عشر، على تفاوت في جوهريتها وصراحتها، غير أنه في أثناء الحرب، وفي الساعة التي تقررت فيها (أخوة السلاح)، عرف الأوروبي كيف يختار السياسة التي تناسب تلك الساعة، هو الذي يتمتع بالمقدرة الانتهازية الجبلية الفطرية، فعرف (لورانس) مثلاً في الساعة التي هدد فيها (فون أرمين) قناة السويس عام ١٩١٥م كيف يثير (الثورة العربية) المشهورة حين دلل ضعف الشيخوخة لدى عجوز هو الشريف حسين، وتملق مطامع حفنة من الزعماء الشبان المخمورين بفكرة (المملكة العربية).