للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تدليس العطف]

النوع الثالث: تدليس العطف: وهو أن يروي الراوي عن شيخ سمع منه أحاديث كثيرة، ثم يعطف على هذا الشيخ شيخاً آخر لم يسمع منه هذا الحديث.

فيقول مثلاً: حدثني فلان وفلان، وفلان الثاني هذا لم يسمع منه، بل هو سمع من الأول فقط، ولأن الأصل في العطف مقتضاه الاشتراك؛ فإن السامع له يظن أنه سمع منهما جميعاً.

ومن فعل هذا النوع من التدليس -كما مثّل العلماء به في هذا النوع- هو هشيم بن بشير، أحد رجال الكتب الستة، ولكنه هو والوليد بن مسلم والثوري والأعمش اتهموا بتدليس التسوية الذي سيأتي تعريفه إن شاء الله.

فقد قام ذات يوم في مجلس التحديث، وكان له دعابة مع طلبة الحديث، والطلاب يعلمون أن هشيماً من الثقة بمكان، ومن الحفظ بمكان، وهو ثقة ثبت، لكنه يدلس ليعلو بالإسناد -وللتدليس بواعث كثيرة سنبينها إن شاء الله تعالى- ولهذا اجتمع طلبة العلم ذات يوم وقالوا: والله لا نأخذ منه حديثاً قد دلس فيه، واتفقوا على أنه إذا قال: عن، فإنهم سيقولون له: أسمعت هذا الحديث؟ فوقفوا بالمرصاد لكل عنعنة، فيأتي هشيم فيقول: عن فلان، فيقولون: لو سمحت يا شيخ! أسمعت هذا الحديث من شيخك؟ فيقول: لا، وهكذا حتى فطن هشيم أنهم تربصوا به الدوائر على ألا يدلس بحال من الأحوال، فقال: هل تظنون أنكم ستغلبونني؟ انتظروا مني ما سيأتيكم، فقال: حدثني حصين وحصين بن عبد الرحمن ثقة ثبت- حدثني حصين والمغيرة والمغيرة بن قاسم الضبي فقيه من فقهاء الكوفة؛ كان عابداً زاهداً- ثم سرد الإسناد، وأتى بأكثر من إسناد على مثل هذا بالعطف، فبعدما انتهى من مجلس التحديث، قال لهم: أدلست عليكم بشيء؟ قالوا: لا والله، قال: ما من حديث قلت فيه: حصين والمغيرة، فإني لم أسمع من المغيرة حرفاً واحداً، أي: دلست عليكم في المغيرة، ولأن كثرة الطرق تبين كثرة اطلاع طالب الحديث، فإن الطالب سيأتي ويقول: حدثني هشيم حدثني حصين، وفي الطريق الآخر يقول: حدثني هشيم حدثني المغيرة، فيكون قد وقع في التدليس، وهذا هو تدليس العطف.

وفي هذا تأديب لطالب العلم، بأن يجلس عند شيخه مجلس التلميذ حتى وإن كان الشيخ يتحدث عن مسألة قد أتقنها، فالشيخ هنا أدب طلابه وكأنه قال لكل واحد منهم: علمت مسألة وأنت تجهل حراً من المسائل، فتأدب حتى تصل، فإن جلست مجلس التلميذ فالبس ثوب التلميذ، وإن جلست مجلس الشيخ، فالبس ثوب الشيخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>