[المرتبة الأولى من مراتب المدلسين: عنعنة الأئمة الكبار حكمها حكم السماع]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
المرتبة الأولى: كل عنعنة من اتهم بالتدليس في هذه المرتبة حكمها حكم السماع، سواء في الصحيحين أو في غير الصحيحين، مثل ابن عيينة عن الزهري، فإذا قال: حدثني الزهري، أو سمعت الزهري، أو قال: عن الزهري، فالحكم واحد.
وهذه المرتبة أصناف: قوم اتهموا بالتدليس وهم من التدليس براء كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، كـ مسلم والبخاري، والدارقطني وشعبة، فهؤلاء اتهموا بالتدليس وهم أبأ ما يكون عنه.
وقوم دلسوا مرة أو مرتين في حياتهم فقط، كـ يزيد بن هارون الواسطي، هذا دلس في حديث واحد وقال: دلست فيه فما بورك لي فيه.
وقوم تدليسهم يسير جداً، وهو من تدليس الشيوخ، مثل راو كان يدلس عن شيخه محمد بن أحمد الثوري الجوزاني فيقول: حدثنا محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة كان يقول: محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة كان يقول: حدثنا محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة أخرى قال: محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، وقال مرة: حدثنا محمد بن أحمد الثوري الجوزاني، ومرة قال: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسين، وتدليسه عن شيخه ليس لأنه كان ضعيفاً، ولكن كان التدليس لأن الشيخ كان من أقرانه، فاستصعب أن يروي عنه وهو من أقرانه، لكن تقوى الله والورع والإخلاص يجعل الإنسان لا يبالي بمثل هذا، وقد قال ابن عيينة: لا ينبل المرء حتى يأخذ ممن هو دونه وممن هو فوقه وممن هو قرين له، وهذا التدليس أخف الأنواع، ولذلك جعل في المرتبة الأولى.
ومن هؤلاء أيضاً: أحمد بن عبد الله الأصبهاني أبو نعيم الحافظ، وهو أشهر من أن يذكر فيه كلام، وهو ثقة تكلم فيه بلا حجة، تكلموا فيه من أجل العقيدة، واتهموه بالتدليس من وجهين: الوجه الأول: أنه كان يروي عن مشايخه الذين أجازوه إجازة، ويقول: أخبرني، وما يقول: إجازة، بمعنى أنه يكتب له شيخه: أجيزك ما في هذه الصحيفة، أجيزك في هذه الأحاديث، فهو يروي هذه الأحاديث عن شيخه إجازة، ولا يبين أنه يرويها إجازة، بل يرويها عن شيخه ويقول: أخبرنا، فقالوا: هذا نوع من أنواع التدليس، فقد كان لزاماً عليه أن يقول: أخبرنا إجازة، أو يقول: أجازني شيخي في كذا ويروي هذه المرويات.
والوجه الثاني: أنه كان يدلس عن شيخه المكثر عنه، وهو عبد الله بن جعفر بن فارس، فهو من أكبر شيوخه وسمع منه كثيراً، كان يروي عنه ويقول: أخبرنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه، يقول الذهبي: هو يوهم أنه حضر المجلس؛ لأنه قال: فيما قرئ عليه، وكأنه سمع منه، وهو لم يكن في المجلس.
والصحيح أن أبا نعيم لا يصح أن يوصف بالتدليس، والإجابة عن هذين الوجهين كما يلي: أما الوجه الأول فـ أبو نعيم كان من المحدثين الذين يجوزون أن يقول المحدث بالإجازة: أخبرنا، وهو بنفسه صرح وقال: إذا قلت في حديث حدثنا الشيخ، فهذا سمعته منه بأذني، وكل ما قلت: أخبرنا فهذا ليس سماع ولكنه إجازة، فأصبح هذا أشهر من النار على علم، وهو مصطلح لـ أبي نعيم وغيره في الإجازة يقول: أخبرنا، وفي السماع يقول: حدثنا.
وابن عبد البر يقول بهذا القول، قال: تروى الإجازة عند محدثي الأندلس بصيغة أخبرنا، فهذا مصطلح بعض العلماء أخذ به، فلا يعاب عليه، وهو قد برأ ساحته؛ لأنه قال: كل ما قلت فيه: حدثنا فهو سماع، وكل ما قلت فيه: أخبرنا فهو إجازة.
أما الوجه الثاني وهو روايته عن عبد الله بن جعفر بتلك الصيغة، فرد الذهبي هذا الاتهام بأنه قيل: لعله كان يحضر المجلس، فالأولى إحسان الظن بالمحدث، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل القاطع الذي يثبت أنه كان يدلس، فالصحيح الراجح أنه بريء من التدليس؛ ولهذا جعل من المرتبة الأولى، وهم قوم اتهموا بالتدليس وليسوا كذلك.