للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تدليس التسوية]

النوع الرابع: تدليس التسوية: وهذا أشر أنواع التدليس على الإطلاق، وهو أن يسقط الراوي ضعيفاً بين ثقتين قد سمع أحدهما من الآخر أو لقيه، وممن اتهم بذلك الأعمش وابن جريج، كانا يدلسان عن الضعفاء، وتصوير المسألة: أن يأتي هذا الراوي فيحدث عن شيخه الثقة، وشيخه هذا يحدث عن ضعيف، وهذا الضعيف قد حدث عن ثقة، فهنا الناظر والواقف من النقاد على إسناد الحديث سوف يحكم عليه بأنه إسناد ضعيف؛ لأنه في طبقة من طبقات الإسناد يوجد راو واحد فيه لين أو فيه ضعف، وفي هذه الحالة نقول: هذا الحديث إسناده ضعيف، ولا نقول: حديث ضعيف؛ لأن الفارق بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا قلت: حديث ضعيف، فهذا يعني أنك بحثت في الشواهد والمتابعات ولم تجد أي طريق يجبر هذا الطريق، بعكس قولك: إسناده ضعيف، فإنه يدل على أنك بحثت في الإسناد هذا فقط، فهذه مسألة مهمة يجب أن تعلم، ففي (مجمع الزوائد) مثلاً فإن نور الدين الهيثمي عندما يذكر حديثاً يقول مثلاً: وهذا حديث إسناد رجاله ثقات، أو: هذا حديث رجاله رجال الصحيح إلا فلان، ولكن قد وثقه فلان، والترمذي يقول: وهذا حديث صحيح، والبخاري مثلاً يقول: هذا حديث إسناده غير مستقيم، فأنت يجب أن تفرق بين أقوال أهل الجرح والتعديل والنقاد في الحديث، فإذا قال: هذا حديث إسناده ضعيف، أو حسن مثلاً، فيكون قد كفاك الإسناد فقط، فعليك أن تبحث في الشواهد والمتابعات.

ففي هذه الحالة يأتي الراوي فيسقط الضعيف من بين الثقتين حتى يصبح السند مستقيماً كله، ثم يأتي بالعنعنة، ولذلك كثير من المدلسين لا يقبل منه إلا إذا صرح بالتحديث، كما قال الذهبي في بقية، قال: أما بقية إن قال: عن، فلا تلتفت إليه، وإن صرح بالتحديث فذاك، يعني: إذا قال: حدثني، فخذ، فالمدلس هنا يقول: حدثني ثم يأتي بشيخه الثقة، ثم يقول: عن؛ لأنه لو قال: حدثني، لكان كاذباً، فيسقط الضعيف من بين الثقتين ويأتي بصيغة موهمة للسماع وهي عن، ويكون شيخه قد عاصر الثقة الذي بعد الضعيف.

فيكون الإسناد -أمام الناظر إليه- إسناداً! مستقيماً، فالمدلس صرح بالتحديث، وشيخه ثقة، وحدث عن شيخ معاصر له ثقة أيضاً، ومع أن ذلك بالعنعنة لكنه قد لقي هذا الشيخ أو عاصره.

ولذلك قال العلماء: إن شر أنواع التدليس هو تدليس التسوية، واتهم بذلك الثوري -وكان مقلاً- والأعمش والوليد بن مسلم وهشيم بن بشير وبقية بن الوليد، وهو أبو الباب، ولذلك قالوا: أحاديث بقية ليست بنقية، فكن منها على تقية.

والعلماء غلظوا جداً على التدليس عامة، وعلى تدليس التسوية خاصة، وأغلظ ما رأيته قول ابن حزم حيث قال: إن الذي يدلس تدليس التسوية ساقط العدالة، رقيق الديانة؛ لأنه سيضيع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو نقول: يدخل في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منها.

<<  <  ج: ص:  >  >>