التأليف جاء تأليفه .. فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادّها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟
قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادا وتركيبا؛ فذلك في جملته حق لا ريب فيه. وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سورة فصلت: ٤٤].
وأما بعد .. فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان؟! فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادّة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانا مرفوعة، وسقفا موضوعة، وأبوابا مشرّعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنّها للناس من الحرّ والقرّ، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء بحيث يتخللها الضوء والهواء. فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء ..
إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتا بعيدا.
كذلك ترى أهل اللغة الواحدة .. يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة. ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك،