أتاني بها كالنار من قبل مزجها ... ومن بعده كالشمس عند غروبها
لهيب قلوب الشرب تطفا بشربها ... ويخشى على أيديهم من لهيبها
وفي كل من المقطوعين ما ليس في الآخر، فقول عبد المحسن: إن لهيب النار يطفأ بما يخشى على الأيدي لهيبه معنى لم يستوفه ابن رشيق، وقول ابن رشيق: إنه شجها تحرزا من الاحتراق زيادة على عبد المحسن.
وقد أحسن ابن رشيق أيضاً في وصف المزج بقوله:
تزأر في الكأس وهي مزبدة ... كأن حبس السقاة أغضبها
شجت مرارا كأن شاربها ... لم يستطع قتلها فعذبها
ومن غريب ما في هذه الأبيات:
وقام بالكأس بيننا قمر ... يدير ذات اليمين كوكبها
فقلت: خذها وهاتها عجلا ... فقال: لا تكثر التعتب ها
ويحتاج منشد هذا البيت عند ذكر القافية إلى إشارة المناولة، فبذلك يتم المعنى.
فأما النهي عنه فمن أحسن ما جاء فيه لمتأخر:
قدر المدامة فوق قدر الماء ... فارغب بكأسك عن سوى الأكفاء
ولفرط ما قل الخليط رفعتها ... عما يكون لها من الخلطاء
والمليح كل المليح قول مسلم:
إذا شئتما أن تسقياني مدامة ... فلا تقتلوها كل ميت محرم
خلطنا دما من كرمة بدمائنا ... فأظهر في الألوان منا الدم الدم
ولعمري إن أسرارها في الألوان فاشية، وحمرة الخدود مخبرة واشية.
ولقد أحسن الآخر في قوله:
ومقتول سكر عاش لما دعوته ... فبادر مسرورا يرى غيه رشدا
وقام تثنيه بقايا خماره ... وقد قطفت عيناه من خده وردا
لأنه جمع بين الاستعارة والتشبيه مع حسن اللفظ. وعلى ذكر العين والخد فقد أبدع ابن مكنسة في قوله:
لم أر قبل شعره ووجهه ... ليلا على صبح نهار عسعسا
والسكر في وجنته وطرفه ... يفتح وردا ويغض نرجسا
على أن من تشبيهاته التي ابتكرها قوله من أبيات في الخمر:
ما لاح وجهك يجتلى في مجلس ... إلا وجلى عنه وجها أربدا
بكر إذا افترعت أخذت شعاعها ... بيدي وقلت لأهلها هذا الردى
ومن مليح ما وصف به فعلها قول ابن وكيع:
إذا ملكت رق الحجى ساء ملكها ... له فهو منها مدة الدهر آبق
ويحكى أن رجلا ترك النبيذ، فقيل له: لم تركته وهو رسول السرور؟ فقال: إلا أنه بئس الرسول؛ يبعث إلى القلب، فيمضي إلى الرأس.
وقال آخر:
كأس إذا جليت علينا في الدجى ... ولم تبق منها غير صدغ أسود
وتظنها دارت عليك وإنما ... دارت على نوب الزمان بمرقد
ولابن شرف:
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... بالأرض فيها والسماء تذوب
والكأس كاسية القميص كأنها ... لونا وقدا معصم مخضوب
مشروبة، للب شاربة، وما ... شيء سواها شارب مشروب
وقد تصرف في معنى قوله: شارب مشروب، ونقله إلى معنى آخر فقال:
وطلبت منه تكرما وظلمته ... فتعجبوا من ظالم متظلم
مثل الصلاة أردتها من حائض ... أو كالزكاة طلبتها من معدم
وهذان في أبيات منها:
لولاك ما لبس الضنى جسدي ولا ... عبس الزمان إلي بعد تبسم
غيري جَنَى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
وقد أخذ معنى هذا البيت أحد شعراء العصر فقال:
فإن كان ذا غيظ فإني بنانه ... يسيل دما من عضة المتتابع
ولابن حيوس في تركيب شارب مشروب، وظالم متظلم:
فلك الفريد وقد وجدت نظامه ... ولي النظام وقد وجدت فريدا
حمد الورى لي ذا الثناء ومذهبي ... فيه فكنت الحامد المحمودا
والاختلاف في الصرف والممزوج كالاختلاف في الصبوح والغبوق، وقد أكثر الناس من الكلام فيهما، والتفضيل بينهما. ومن أحسن ما سمعه المملوك في تفضيل الغبوق على الصبوح قول بعض المتأخرين الذين اشتهروا بالعكوف على لذاتهم، وأطاعوا سلطان أغراضهم وشهواتهم؛ فإنه ذم الصبوح وكان يدمنه، واعتذر عن ذلك بما يستطيعه ويمكنه فقال: لا عذر في الصبوح لغير ملك، أو خليع منهمك؛ فالملك لا يقاس عليه لعظمته، والخليع لا يلتفت إليه لضعته، وإن كنت في هذا من الشعراء أقول ما لا أفعل، لكن فضلت أحسن القولين، ولم أجمع بين الخطأ من وجهين.