فمن قصد المدح أراد سرعة الإجابة كالصدى، ومن قصد الذم نسبهم إلى الثقل مثل الجبال.
ومن النوادر العجيبة ما حكي عن زيد الأعور الخياط من أنه خاط لسلم الخاسر قباء، وقال: قد خطته ل خياطة لا تبالي معها إذا لبسته مقلوبا كان أم مستويا من جودة عمله ودقة دروزه، فقال سلم: وأنا أقول فيك قولا لا تدع أمدح هو أم هجاء؟ وقال:
جاء من زيد قباء ... ليت عينيه سواء
فأحاجي الناس طرا ... أمديح أم هجاء؟
وهذا من قول المتنبي:
فيا بن كروس يا نصف أعمى ... وإن تفخر فيا نصف البصير
كان الشعراء قد نالوا بر الحسن بن سهل في عرس بوران ابنته إلا أبا الينبغي، فقال لأقولن ما لا يعلم أمدح هو أم هجاء؟ وقال:
بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن
يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من؟
ومن الشعر الذي يحتمل معنيين ولم يقصد الشاعر إلا أحدهما قول حبيب في وصف عمورية:
بكر فما افترعتهما كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
وهذا مما يصلح أن توصف به الخمر. وأبلغ ما قيل في عتقها:
تحسب من طول الحقب ... مخلوقة قبل العنب
على أن فيه إحالة بذكره المعلول قبل العلة، وقد أصلح المعنى شيئا بقوله: تحسب. وهو من الإفراط في الغلو. وقال السلامي في وصف فرس أدهم:
خاض الدماء وتحلى بالزبد ... كأنه إنسان عين في رمد
والثاني يصلح صفة لخال في خد. وقد أحسن الآخر في قوله:
وكأن خالا في صفيحة خده ... أثر الشرارة في قميص أحمر
وهو من بارع التشبيه. ولأحمد بن الشقاق:
تتنفس الصهباء في لهواته ... كتنفس الريحان في الآصال
وكأنما الخيلان في وجناته ... ساعات هجر في زمان وصال
وقال عبد المحسن في الحمام:
ومنزل أقوام إذا نزلوا به ... تشابه فيه وغده ورئيسه
وهذا مما يصلح أن يوصف به قبر. وتمام الأبيات من مستحسن ما وصف به الحمام، وهو:
يخفف كربي أن تزيد كروبه ... ويؤنس قلبي أن يقل أنيسه
إذا ما أعرت الجو طرفا تكاثرت ... عليك به أقماره وشموسه
ولبعض العصريين فيه:
أهلا بذا الحمام من منزل ... شيد لأبرار وفجار
تدخله ملتمسي لذة ... فندخل الجنة في النار
ومن الشعر الذي يتضمن نوعين من التجنيس قول ابن حيوس:
في ظل أروع إن تسأله منفسة ... يهب وإن باشر الهيجاء لم يهب
ففيه تجنيس اللفظ والخط: بيهب. وتجنيس التورية بها أيضا لأنه مدح بإيجاب وبنفي وأتى بالنفي على صيغة الموجب، وإنما ورّى به عن معنى آخر.
[مما جمع المدح بالشيء وضده، وهو من ضروب التوجيه]
من ذلك ما قيل في وصف عزة مولانا - خلد الله ملكه - وكرمه، ومدحه بحماية الشيء الذي على يده إراقة دمه، وهو مذهب الشعراء في امتداح ملوك العرب؛ لأنه يصفونهم بدفعهم عن النعم وذبهم، وإباحة حماها للوافدين عليهم والنازلين بهم، على أن عظمته تأبى إلا عقر البدر تنزها عن عقر البدن، كما أنه لا يقنع في القرى بدون إقطاع القرى وتسويغ المدن. والذي قيل:
يمنع السرح من تعدي الأعادي ... بطوال القنا وبتر السيوف
فهي في الخوف أمنها من مغير ... وهي في الأمن حتفها للضيوف
وهذا معنى قول ابن حيوس:
تبيت حداد البيض أوفى حتوفها ... وتضحي حجازاً دونها في المراتع
وقوله:
تتوقع الأذواد منه عاقرا ... ما زال يحمي سرحها ويذود
وقوله:
وتمنع ما تحوي لتعطيه ندى ... وغيرك لا ينفك يعطي ليمنعا
فأراد أنك تمنع إباء وعزة ما تعطيه كرما ومنحة، وغيرك يعيط ذلة ومهنة ليصون ذخيرةً وقنيةً. والأصل في هذا قوله:
لنا إبل غر يضيق بها الفضا ... ويفتر عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستذم دماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأهون خطب يوم حق فناؤها
وكرر ابن حيوس هذا المعنى، فقال وأحسن:
تضحي سيوفك للبلاد مفاتحا ... فإذا فتحت جعلتها أقفالا
على أنه مأخوذ من نصف بيت لأبي تمام، وهو قوله: أصبحت مفتاح الثغور وقفلها