فلما عاد سيف الدولة إلى داره استعاده إياها، فأنشدها، وكثر الناس فقال قائل منهم يريد كيد أبي الطيب: لو أنشد قائما لأسمع، فأكثر الناس لا يسمعون، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها: لكل امرئ من دهره ما تعودا وهذا من مستحن الأجوبة ولو أدرك المتنبي عصر مولانا لكانت خدمته واقفا من أبهر آياته، ومثوله بين السماطين قائما من أشرف عاداته؛ إذ كان الملوك وأبناؤهم لا تسمو هممهم إلى غير الوقوف لديه، ولا يتعدى أملهم الخضوع له والانتصاب بين يديه. ولقد سعد بما يرويه مولانا من شعره سعادة لا يجهل أحد فضلها؛ فنال بعد وفاته رتبة لا تدلك الأفكار شأوها، ولا تبلغ الأوهام محلها:
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك ترويه إذن لتألها
ومن القوافي التي لا يكاد يهتدي إليها قول ابن المعتز في وصف الطيور الهدى:
لقد عرفن البرج بالآيات ... يلوح للناظر من هيهات
وهيهات غاية البعد. قال الله تعالى: (هيهات هيهات لما توعدون) وقد استعملها بحيث لا تفطن القرائح لها.
وقوله في وصف فرسين يتباريان في الجري:
وكم قد غدوت على سابق ... جواد المحثة وثابها
تباريه جرداء خيفانة ... إذا كان يسبق كدنا بها
فقوله كدنا بها، من أغمض تتميم وأصعبه، وأغرب لفظ فقي هذا البيت به.
وقول محمد بن أحمد الأصبهاني:
والجو مخضر الحواشي أملس ... يبسم فيه في البرق وهو يعبس
وفيه سرج نارها لا تقبس ... بت أراعيها كأني هرمس
فقد دلت هذه القافية على بديع الصنعة، وقضت لهرمس بالمعاد والرجعة.
وعلى ذكر القوافي فروي أن هشاما الأحول قال: كنا عند الأصمعي، فأخذ في شعر عبيد الله بن قيس الرقيات، فجعل ينشد حتى قال:
عاد له من كثيرة الطرب ... فعينه بالدموع تنسجم
وإنما هي تنسكب. وقال يا فتيان أمروها على الميم. قال: فأمرها ونحن معه، يقول ونقول على الميم حتى بلغنا إلى قوله:
ما نقموا من بني أمية إل ... لا أنهم يحلمون إن غضبوا
فأراد قافية على الميم، فلم يقدر عليها.
والمملوك يقول: إن من أعجب الأشياء توقف الأصمعي خاصة في تقفية هذا البيت على الميم مع ما يروى عنه من قوله: إن الحشمة في كلام العرب بمعنى الغضب، وحكايته عنهم أن ذلك لممَّا يحشم بني فلان، أي يغضبهم، فكان يلزمه أن يقول: حشموا. على أن أحسن ما قفي به هذا البيت على الميم ما اقتضاه صدره فيقال:
ما نقموا من بني أمية إل ... لا أنهم يحلمون إن نقموا
ويقال في البيت الثاني:
وأنهم معدن الملوك فما ... تصلح إلا عليهم الأمم
ويجعل الأمم عوضا عن العرب.
وذكر ابن أبي طاهر أنه عرضت على المنصور جارية، وقيل: إنها راوية للشعر، فاستنشدها، فأنشدته شعر ابن قيس الرقيات: عاد له من كثيرة الطرب فلما بلغت إلى قوله:
ما نقموا من بني أمية إلا ...
علمت أنها قد أخطأت، فقالت: أنهم يسفهون إن غضبوا.
ثم قالت:
وأنهم أرذل الملوك فما ... تفسد إلا عليهم العرب
فقال لها: أهكذا رويت هذا الشعر؟ قالت: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكني لما ألقي على لساني، وعلمت أني قد وحصلت غيرته إجلالا لك وصدقا في القول، فأعجبه ما رأى من فهمها، وأمر بأن تشترى.
[في القوافي المتمكنة التي يصلح أن تتلو هذا الباب]
من ذلك قول ابن مطرف:
يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أكفاره بالغيب كهان
لا طرفة منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دورة إلا لها شان
والبيت الأول - وهو المراد - من قول ابن حيوس:
وإذا امتطى سيف الخلافة عزمه ... فلدولة يبني وأخرى يهدم
وإذا نظرت إلى عواقب رأيه ... أيقنت أن ظنونه تتنجم
كما أن تركيب قول مهيار، والمراد الثاني:
صحا القلب لكن صبوة وحنين ... وأقصر إلا أن يخف قطين
وقالوا: يكون البين والمرء رابط ... حشاه بفضل الحزم؟ قلت: يكون
من قول عروة بن أذينة:
منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا وقال: لعلها معذورة ... في بضع رقبتها، فقلت: لعلها
[مما يتجاذبه ضدان]
قالت ليلى الأخيلية:
ومخرق عنه القميص تخاله ... بين البيوت من الحياء سقيما