قد أورد المملوك في رسالته ومختصره ما يدل على عجزه عن مفترط الخدمة الشريفة وحصره، ولا غرو أن يكون اجتهاده متأخرا عما يلزم ويجب، إذ كان المقام الأعظم مما يخفق كل قلب لمهابته ويجب، والله - سبحانه - يحرس عليه رأي مالكه وسلطانه، ويقره من خدمته فيما يليق بمساكن مثله وأوطانه، بجوده السابغ وإحسانه، وفضله الغامر وامتنانه، إن شاء الله عز وجل.
[رسالة التدلي على التسلي]
[رسالة سماها التدلي على التسلي]
من دلائل تفرد الله بتدبير بريته، وشواهد جري الأمور على إرادته ومشيئته، وحجج وحدانيته التي من جحدها أبان جهلا وعنتا، وبراهين ما أخبر به في قوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) أنه سبحانه يحمد على ما يسلبه كما يحمد على ما يهبه، ويشكر على ما يزعج ويضر كما يشكر على ما يبهج ويسر، فجئ القلوب ما يحدث فيها انصداعا، ودهم العقول ما يكاد يطيرها شعاعا، لم يلفتها الجزع عن حمده - جل وعز وعلا - ولم يمنعها الوله من الرضى بقضائه، وإن تحملت منه باهظا مثقلا. فالحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه، ولا يخرج شيء من مصنوعاته عن الشهادة له بأنه إله، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي حباه الشرف الباهر، وآتاه الفضائل الجمة والمفاخر، وأحسن العزاء لأمته في قوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) . وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي تولى من رسول الله - صلّى الله عليه - ما أبان به عن حسن صبره، واعتزل أمور الدنيا جانبا إلى أن واراه - عليه السلام - في قبره، مع ما تداخل النفوس يومئذ من الحسرات، وفجعت به من الطوارق المستنكرات، حتى غدا ذوو الجلد في قبضة الهلع موثقين أسارى، وظلوا كما قال الله - عز من قائل -: (وترى الناس سكارى وما هم بسكارى) وعلى آلهما الأئمة الأبرار، الذي اهتضموا حيث حلوا من الأرض وكانوا، وظلموا فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، إلى أن استثمروا من الصبر استعادة حقهم، وضيقوا على أعدائهم مسالك طرقهم، وسلم عليهم أجمعين تسليما، وزادهم تشريفا وتكريما وتعظيما.
وإن من حكمة الله - تعالى - وقدرته، وخفي علمه في تدبير خليقته، أن جعل أهل الدنيا فيها متفاضلين، وعند فراقها متساوين متماثلين، إذا نزل بهم حدث الموت لم يتميز فيه قوي من ضعيف، وإذا تجرعوا كأسه لم يختص بمر مذاقها مشروف دون شريف، وذلك يقين لا مجال للشك فيه، وحق لا يطور الباطل بناحية من نواحيه، وقد أخلدت النفوس إلى صحته وركنت، واطمأنت القلوب إلى حقيقته وسكنت، لأنه أمر حتم قد علم بالفطرة، وغامض من غوامض الحكمة، وسر من أسرار القدرة، وفي الصبر على ألمه الموجع، وترك الجزع الذي هو غير نافع ولا منجع، إيضاح للتذلل والخشوع، وإظهار للتضرع والخضوع، وإبانة عن الإخبات لله - جل وعز - فيما شاءه، ودلالة على رضى المخلوق بحكم خالقه فيما سره وساءه، وذلك موصل إلى السلوة بأقوى الأسباب وداع إلى نيلها مع إحراز الأجر الجزيل والثواب. ومن أبى في الرزء إلا الأسى كان بكاه منتهى جهده. وما أحسن قول الحسن البصري: (الحمد لله الذي كلفنا ما لو كلفنا غيره لصرنا فيه إلى معصيته، وآجرنا على ما لا بدّ لنا منه) .
يقول: كلفنا الصبر، وأكلفنا الجزع، لم يمكنا أن نقيم عليه وأجرنا على الصبر ولا بدّ من الرجوع إليه.
ثم إن التأسي يسهل المصاعب، ويهون المصائب، فلله ابن دريد في قوله: وفي خطوب الناس للناس أسى وإن كانت الخنساء قد غلبت على هذا الباب في المشهور من قولها:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
وقد جعلت الغدر في تركها قتل نفسها كثرة الباكين حولها. وأين هذا من قول الآخر:
ولقد هممت بقتل نفسي بعده ... أسفا عليه فخفت ألا نلتقي
فذكر أن علة ما هم به من قتل نفسه الأسف على من فقده، على أن ذلك في قوة قول الخنساء. وإن علة الامتناع ما جاء في الحديث من أن قاتل نفسه في النار. وقد وثق بحصول من فقده في الجنة، وطمع بها إذا لحقه غير قاتل نفسه. وهذا العذر أشرف من عذر الخنساء؛ لأنه للمخافة من عدم اللقاء في المآل، وعذر الخنساء إنما هو للتأسي.