ولذلك خدم المملوك بهذا الجزء الذي ألفه وجمعه، وأودعه مختار ما سمعه، وأضاف إليه ما استنبطه وابتدعه مما لم يعلم أحدا سبقه إلى ما عمله منه وصنعه، وقصد في هذه الجملة أن يوجز ويختصر، إذ كان الواجب أن يعتمد على اليسير ويقتصر، لأن هيبة المقام الأعظم تمنع ما يستطال وإن كان يستطاب، على أن المثول بين يديه يبيح استيفاء الحجة وإن اتسع الخطاب، والله - عز وجل - يهديه في خدمة مالكه أقوم جدد، ويريه من نعمه السابغة ما لا يحصيه عدد، فله القوة والحول، وبيده القدرة والطول.
[في الشكر الذي يصون النعم من الانتقال ويلزم تقديمه أمام كل مقال]
إن الله تعالى جعل الشكر فريضة لا رخصة فيها، وطريقة لا يضل مقتفيها، وكان لمن حافظ عليها وحالفها المزيد، ولمن عدل عنها وخالفها التهديد والوعيد. قال الله - عز من قائل -: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) فواجب أن تقابل النعم من الشكر بما يؤنس وحشيها، وتواصل من الحمد بما يعطف أبيها، فإحسان مجاورتها مقرب لقصيها، وإجمال مصاحبتها ملين لعصيها، والتضرع لموليها في حراستها يؤكدها ويجددها، والتوسل إلى مسبغها في إدامتها يقيدها ويخلدها، ولازم لكل ذي عقل أن لا يجهل معرفة قدرها، ولا يشتغل بسكرها عن شكرها، ولقد أحسن أبو إسحاق الصابي في قوله: موقع الشكر من النعمة موقع القرى من الضيف؛ إن وجده لم يرم، وإن فقده لم يقم.