وأما ما انعجم عليك من حال حولنا فقد برئ - بحمد الله - عليل برانا، وأثرى فقير ثرانا، بطالع وسمي دنا فأسف، وتابع ولي وكف فما كف ثرثارا قطره، محجوبا شمسه وبدره، حتى إذا ركب بالطام، وخيف منه انحطام الأطام، مزق عن الرقعاء صحيح إهابها، واختزن در البر في أصداف ترابها.
وللملوك رسالة في مضاهاة هذه الإجابة منها: وأما استقراؤك حال سنتنا التي وصفتها بالمجدبة، وهي المجدية، ووسمتها بالمهلكة وهي المحيية؛ فقد كانت البلاد مغبرة مقشعرة فيها، وجاء - من كرم الله - ما يذهب عنها الشدائد وينفيها، فأتت جيوش النعم متوافرة مقتحمة، ودنت ضروب المنح مكاثرة مزدحمة. فتأمل الألطاف كيف تستبق ولا يخاف من فوتها، وانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها وذلك أن السحاب أنجم ثم أثجم، والغيث ارتفع ثم اندفع، بهطل لا يخشى ضيمه، في يوم ستارته غيمه، تخال مزنه للشمس عاشقا، وتظنه بها مغرما ولها وامقا، فكلما جعلت تحتجب ظل لعدمها يبكي وينتحب، فعاد نسيم وقتنا عليلا مريضا، وغدا أديم أرضنا صحيحاً أريضاً، قد أحيا انهلال القطر بجرعاتها مواتا، واستحفظت من الحب سرا فوشت به نباتا.
رجع المملوك إلى تحية الندمان.
فمن فصولها: ولقد نشطت يوما للنزهة في جماعة من الغرباء وطنا وفطنا، فمر لنا يوم خنث الشمائل، غنج الضحى والأصائل، فلما قبض المغيب روح الشمس، وصارت من الظلام في رمس، حثثنا الصغير بالكبير، وحدنا عن شرب القليل إلى الكثير.
والمملوك يقول: إن قوله: وطنا وفطنا، من تركيب قول البديع: فما أجرنا حزنا حتى هبطنا بطنا.
وقد أحسن البحتري في قوله:
جلن في يابس التراب فما رم ... ن طعانا حتى وطئن الطينا
فأما وصفه الشمس في مغيبها، وما استعاره لها عند غروبها؛ فهو مما أغرب فيه، وأتى بإحسان لا يقدر الحاسد يكتمه ولا يخفيه.
وقد أحسن الآخر في وصفها عند أفولها بقوله: فجليت عروس الشمس في الإصفرار، وأخذ الليل يدنس ثوب النهار.
وذكره هاهنا تدنيس الثوب مع جلاء العروس من المعاني التي تبتهج بها القلوب، وتنشرح لها النفوس.
[فصل في محاسن أهل الوقت]
فمن ذلك: قول قاسم بن علي معارضة لأبي عبادة البحتري.
قال البحتري من قصيدة أولها:
بات نديما لي حتى الصباح ... أغيد مجدول مكان الوشاح
مشبها للثغر:
كأنما يبسم عن لؤلؤ ... منظم أو برد أو أقاح
وقال القاسم بن علي (الحريري) :
نفسي الفداء لثغر راق مبسمه ... وزانه شنب ناهيك من شنب
يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب
فالبحتري شبه الثغر بثلاثة، والقاسم شبهه بخمسة وهذا أكثر ما يمكن في بيت.
وإذا استحسن قول الوأواء:
وأسبلت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد
وفيه خمسة تشبيهات بخمسة مشبهات فأن تستحسن هذه العدة لمشبه واحد أجدر.
والقاسم هذا باهر الفضل، فائق الطبع، غزير الأدب، كثير الملح فمما أعرب فيه عن براعته، وأبان عن بديع صناعته، أنه يمدح الشيء فيحسن في مدحه، ثم يذمه فيكشف عن قبحه، كقوله يمدح الدينار:
أكرم به أصفر راقت صفرته
وحببت إلى الأنام غرته
كم آمر به استتبت إمرته
وجيش هم هزمته كرته
وحق مولى أبدعته فطرته
لولا التقى لقلت: جلت قدرته!
وقوله يذمه:
تبا له من خادع مماذق
أصفر ذي وجهين كالمنافق
وحبه عند ذوي الحقائق
يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق
وشر ما فيه من الخلائق
أن ليس يغني عنك في المضائق
إلا إذا فر فرار الآبق
واها لمن تقذفه من حالق
ومن إذا ناجاه نجوى الوامق
قال له قول المحق الصادق
ولا رأي في وصلك لي، ففارق
وقد جعل هذا الشعر على وجه اللغز، وهو كثير الاستعمال لهذه الطريقة. ومن مليحها ما صنعه على لسان السروجي وولده وقاض تقدما إليه، فالذي نسبه إلى السروجي: