ومن تأمل هذا الشعر البديع، وتدبر هذا التركيب الصنيع، وجد فيه ما لا يأبى استحسانه طبع سامع، وعلم أنه مما لا يظفر به كل طامع.
وقد استحسنوا هذه اللفظة - أعني: زه - في قول الأول - وهو مما يتغنى به:
في مثل هذا يحسن البلوى ... ليس على عاشق ذا عدوى
وكل من أبصره قال لي ... زه يا فتى تحسن أن تهوى
فإذا كانت مع ضعفها في الحشو مستجادة مستحسنة، فما الظن بها وقد أتت قافية قوية متمكنة؟ وعلة فضيلة التقفية أنها أقصى ما يحصره الوزن، وآخر ما يلقاه السمع، وبهذا احتج مفضل المقاطع على المطالع؛ فإذا كانت القافية مدى الشعر، ومنتهى حده، وغاية ما يبلغه مما لا مطلب من بعده؛ فلا غرو أن تكون مدح مولانا إذا تؤملت قوافيها مشتملة على الألفاظ التي لا تحسن في شيء حسنها فيها؛ إذ كان آخر ملوك الدنيا وقتا وزمانا، وإن كان أولهم شرفا ومجدا وسلطانا:
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى
فذلك
إذ أتى متأخرا
ولهذا فضل البيت الذي يكون المستحسن في آخر أجزائه، على البيت الذي يتضمنه حشوا في تضاعيفه وأنحائه. على أن من الحشو ما لا تخفى بهجته، ولا تجحد فضيلته.
حضر المملوك يوما بين يدي الشيخ الأجل أبي الحسن بن أبي أسامة فجرى ذكر الحشو في الشعر فأنشد لأبي الشيص:
حلي عقال مطيتي ... لا عن قلى
وامضي فإني
يا أميمة
ماض
وقال: قوله: لا عن قلى، فضلة لا يفتقر المعنى إليها فلهذا سميت حشوا، وقد جاءت في الحسن على ما ترى.
ولم يكن المملوك تنبه على ذلك من البيت وإن كان من حفظه فاعتده من فوائد مجلسه، وأضافه إلى ما أخذه عنه من نظائره، وأنشده المملوك قول ابن حيوس:
وجاد بنفس لا يجود بمثلها ... مع العلم بالعقبى نبي مقرب
إذ كان قوله: مع العلم بالعقبى، من أحسن ما جاء في هذا الباب.
ولم يذكر ما جاء من الحشو: بحاشا، وما تصرف منها نحو قول المتنبي:
ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها
وحاشاك
فانيا
وقول الآخر:
مواهب شتى لو عدتني ... وحوشيت
كفاني ما أحرزته متسلقا
وقوله:
ولو أن ياجوج استعانوك مرشدا ... وحوشيت من إرشادهم خرقوا ( ... )
لأن ذلك مما أكثر الناس فيه، فلا لذة في المحاضرة به.
ومن مليح الحشو قول نصيب:
فكدت ... ولم أخلق من الطير
أنني
أعار جناحي طائر فأطير
فقوله: ولم أخلق من الطير، من مستحسن ما أتى من هذا النوع.
وقول عوف بن محلم لعبد الله بن طاهر:
إن الثمانين ... وبلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
على أن قوله: وبلغتها، معدود في الالتفات عند قوم، وفي التتميم عند آخرين.
وقول ابن المعتز يصف خيلا:
صببنا عليها ... ظالمين
سياطنا
فطارت بها أيد سراع وأرجل
فقوله: ظالمين، من بديع الحشو.
وقول مهيار:
وكم ... ثم
من مسترزق حلفت له
لهاك
وبرت
أنه لا يخيب
فقوله: وبرت، لفظة يتم المعنى دونها إلا أنه تبرع بها، فتضاعف المدح بسببها.
وقوله:
لو أن الورى أهلي لكنت وأنت لي ... أقوم بهم مستظهرا وأمو (ن)
فإحسانه بقوله: مستظهرا، مما لا يستطيع أحد جحده، ولا يسد غيره مسده.
وقوله:
عزي بنفسي ولكن زادني شرفا ... أني إليكم إذا باهلت أنتسب
فأبدع بقوله: إذا باهلت، لأنها أفضل ما ورد مع النسب.
وقول ابن أبي الشخباء:
يصرف الأمر في الآفاق خاتمه ... ويصبح الدهر طوعا وهو خادمه
فقوله طوعا، مما تطوع به فأغرب، وأتى منه بما أعجب به وأطرب. ونظائره كثيرة.
ومن مليح ما قيل في الخيمة المنصورة قول ابن زيد الأنصاري:
أخيمة ما نصبت اليوم أم فلك ... ويقظة ما نراه منك أو حلم
ما كان يخطر في الأفكار قبلك أن ... تسمو علوا على أفق السها الخيم
حتى أتيت بها شماء شاهقة ... في مارن الدهر من تيه بها شمم
إن الدليل على تكوينها فلكا ... أن احتوتك وأنت الناس كلهم
والطير قد لزمت فيها مواضعها ... لما تحققن منها أنها حرم