وقد ازدحمت بفنائه ضروب الأمم، وتواصلت إليه ملوك العرب والعجم، وهاجروا نحو بابه راجين مهطعين، وأموا ظله لاجئين إليه منقطعين ولقد ورد منهم اثنان متباعدا الأفقين، متباينا المنطقين وهما ملكا غانة وفرغانة، فأزال من قلب كل منهما أحقاده على الدهر وأضغانه، فاعتبروا يا أولي الأبصار كيف أحسن حتى إلى الدهر فأصلح القلوب له، وجعل ذلك من شكر الله على ما قمصه إياه وسربله. وهذا إشارة إلى القدرة التي خص بها، والعظمة التي استقر في أشرف منصبها. وإذا تأملنا ما سفر فيه البيان وتبرج، وأسفر به صبح الإبداع وتبلج، وأخرجت منه الضمائر جواهر كانت مستترة، ونظمت به الخواطر عقوداً ما زالت منتثرة؛ وجدنا ضروباً من الأقوال متسعة، وأصنافا من المدح متشعبة متنوعة، تدعو الناظر المحرر، والمتأمل المتصور، والعامل بفريضة العدل تعرضا لجزائه، والمناضل عن الحق رغبة في انتسابه إليه واعتزائه، إلى القول إن كل لسان انطلق في أيامه بخدمة ملوكية فما قصد غير مدحه، وكل بيان انبعث في أوصاف حقيقة فما أراد سوى تفصيل ذلك وشرحه، فلله در أبي نواس إذ يقول:
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحه ... لغيرك إنسانا فأنت (الذي نعني)
وما أحسن قول ابن الرومي:
إن أسرق الشعراء شعرهم ... فجزاء ما سرقوا من المجد
سرقوك مجدك وهو مدخر ... من قبل أن تلقى إلى المهد
وكسوه قوماً لا يليق بهم ... من ماجد وسط ومن وغد
فرددت حقك غير معتذر ... منهم إلى حر ولا عبد
فعمدنا إلى هذا الباب ذاكرين منه أنموذجاً لنظائره، واقتصرنا عليه إذ لا طمع لنا في ذكر سائره، واعتمدنا على ما لم يبتذله الاشتهار، وقصدنا ما لم يكن للألسن به استهتار، واجتهدنا في إيراد ما لم تخلق الأسماع جدته، وخدمنا بما لم تسلب الرواية رواءه وهجته. وقد يأتي في تضاعيفه ما ليس من شرطه حسب ما يوجبه تفرع التصنيف، ويقضي به تشعب التأليف. وسمينا ذلك رد المظالم لأنه حق لمولانا.
وقد حليت على غير أكفائه عروسه، وأديرت على غير شربه كؤوسه، فافتضت أسماعهم أبكاره، وشربت أفهامهم عقاره. وهذا ظلم من ناظمه وقائله، وتعد من سامعه وقابله.
ومن أقسام سيرته الشريفة العدل في إعادة الحقوق إلى أربابها، واستخلاصها من دار ذلها واغترابها. فاستعملنا بعض سيرته في وصفه، ورجونا الله بذلك في دفع المكروه عنا وصرفه، والله يسعدها ويوفقنا وعليه توكلنا ومعتمدنا.
وهذه بداية الكتاب: قال محمد بن عيسى:
ملك الورى والندى والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات
وبدر سبع وسبع تستنير به الس ... بع الأقاليم والسبع السماوات
ومن قصد بهذين البيتين وما يجاريهما صفة مولانا فكأنه لقول الحق إنما تلا قرآناً، وهما على الحقيقة كغيرهما من المدائح الشريفة لأنهما لما كان مآلهما إلى العرض بالمقام الأعظم - ثبت الله سلطانه - وكانا يشتملان على بعض صفاته صارا كلتاهما من خدم شعراء المجلس العالي وعفاته. وهذا حكم باب المآل، ونهاية التصانيف للأقوال. قال الله عز وجل: (إني أراني أعصر خمرا) والخمر لا يعصر، وإنما يعصر العنب، لكنه لما كان المآل إلى الخمر سمي المعصور خمرا.
ومثله قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) وإنما التقطوه ليكون لهم سرورا وولدا، لكنه لما كان مآله إلى العداوة جعل علمه للالتقاط.
قال عبد الله بن محمد بن سنان بن سعيد الخفاجي الحلبي:
لا يدعي الفصحاء فيك غريبة ... والبيض تنثر والأسنة تنظم
إن أحسنوا حنك الثناء فإنها ... نطقت بمدحك قبل أن يتكلموا
عجبا لوجهك كيف بارق بشره ... تهمي سحائبه ولا يتغيم
=ومن العجائب أن بيض سيوفه=تبكي دما وكأنها تتبسم فأما الأول فمن مليح التورية وقد أتى بها في قوله:
وصفوا بياض يد الكليم بمعجز ... فيه وكم لك من يد بيضاء
واستطرفوا إحياء عيسى ميتا ... فردا وجودك باعث الفقراء
وقال:
من القوم صال الدهر إلا عليهم ... وصالوا ببيض الهند حتى على الدهر
أشد احتقاراً بالردى من حسامه ... وأدنى إلى سر الأعادي على الذعر
له خلق في المحل غيث وفي الصبا ... نسيم وفي جنح الدجى غرة البدر
وقد استعمل تركيب هذا البيت في موضع آخر فقال: