للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، وأنَّه جوهر لا عرض، ويشهد لهذا قوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩] . والمراد: هذه الأرواح.

والكره، والكراهية: المشقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، أو ما يناله من ذاته وهو يعافه، وذلك على ضربين؛ أحدهما: ما يعاف من حيث الطبع، والثاني: ما يعاف من حيث العقل، والشرع، ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد: إني أريده، وأكرهه. بمعنى: أريده من حيث الطبع، وأكرهه من حيث العقل، أو الشرع، أو: أريده من حيث العقل، أو الشرع، وأكرهه من حيث الطبع.

والمعنى: أن الله جل ذكره يقول للنفس-أي: الروح التي بين جنبي العبد وما به حياته-: اخرجي من جسد عبدي، فقد انقضي أجله، وانصرم عمره، وانتهت مدة اتصالك به، وحلولك فيه، وتعلقك به. تقول: لا أخرج من جسدي الذي حللت فيه، وعلقت به وأنا راضية مرضية؛ فإنه يصعب علي مفارقته، وتركه، ولي بصحبته مدة طويلة، قلت، أو كثرت -لا أنها تمتنع، وتأبى على الله، وتعصي أمره جل وعز، بل يعز عليها الخروج، وترك الجسد منفردًا وحيدًا بدونها- بل إذا أردت خروجي فأخرج كارهة لذلك، غير راضية بذلك، فيقول لها المولى جل ذكره: اخرجي وإن كرهت. فتخرج كارهة. والروح لها بالبدن تعلقات كثيرة تتغاير أحكمها.

قال العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد الشهير بابن قيم الجوزية في كتابه الروح: إن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام؛ أحدها: تعلقها في بطن الأم جنينًا. الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض. والثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه. الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته، وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقًا كليًا، بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتًا، ولا نومًا، ولا فسادًا، وأما قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:١٤١] فإمساكه سبحانه التي قضى عليها الموت لا ينافي ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردًا عارضًا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا، وإذا كان النائم روحه في جسده -وهو حي- وحياته غير حياة المستقيظ؛ فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت له حال متوسطة بين الحي وبين الميت الذي لم تُرَد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت. فتأمل هذا يزح عنك

<<  <   >  >>