للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكل سورة لاحقة أواصر قربى، كما أن ترتيب الآيات التوقيفي لا يقتضي عقلا ارتباط إحداها بالأخرى إذا وقعت كل منها على أسباب مختلفة، وإنا يغلب في السورة الواحدة أن تكون ذات موضوع بارز كلي تأتلف عليه جزئياتها كلها في مقاطعها المتلاحقة المترابطة, لكن الوحدة الموضوعية في كل سورة على حدة لا ينبغي أن تكون هي الوحدة الموضوعية عينها في السور كلها مجتمعة. ولم يبلغ المفسرون هذا المبلغ من التكلف، بل اكتفوا بإظهار العلاقة بين ختام السورة السابقة وفاتحة السورة اللاحقة، كأن الترابط بينهما -لولا فصلهما بالبسملة- وقع عن طريق الآيات موقعا جزئيا, لا عن طريق السورتين موقعا شاملا كليا.

ومعيار الطبع أو التكلف فيما لمح من ضروب التناسب بين الآيات والسور يرتد في نظرنا إلى درجة التماثل أو التشابه بين الموضوعات، فإن وقع في أمور متحدة مرتطبة أوائلها بأواخرها فهذا تناسب معقول مقبول، وإن وقع على أسباب مختلفة وأمور متنافرة فما هذا من التناسب في شيء. وما أصدق قول القائل: "المناسبة أمر معقول، إذا عرض على العقول تلقته بالقبول"! ١.

وأقل ما يعنيه هذا المعيار الدقيق أن وجه المناسبة بين الآيات أو بين السور يخفى تارة ويظهر أخرى، وأن فرص خفائه تقل بين الآيات وفرص ظهوره تندر بين السور: ذلك بأن الكلام قلما يتم بآية واحدة، فتتعاقب الآيات في الموضوع الواحد تأكيدا وتفسيرا، أو عطفا وبيانا، أو استثناء وحصرًا, أو اعتراضا وتذييلا، حتى تبدو الآيات المتعاقبات كالنظائر والأتراب.

من يقرأ قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ٢


١ البرهان ١/ ٣٥ وبهذه الروح ألف برهان الدين البقاعي كتابه القيم "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، ومنه نسخ خطية بدار الكتب بالقاهرة.
٢ سورة البقرة ١٨٩.

<<  <   >  >>