للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} ١ لكن القرآن -حين اختار لتصوير هذه الحال النفسية تينك الآيتين الموجزتين- ما كان يخص ضعاف الإيمان بأعينهم في معركة بعينها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال بذلك أهل التأويل كمجاهد وقتادة وسواهما٢، وإنما كان يرسم -من خلالهما- بريشته الخلاقة المبدعة لوحة شاخصة لنمط من الناس يتكرر في كل زمان ومكان، ويتخطى القرون والأجيال, وقد فهم ابن جريح هذا حين قال في تفسير الآيتين: إنهما في وصف المنافق يبطئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، ويقول مقالة الشامت كلما أصاب العدو من المسلمين مقتلا، أو يقول مقالة الحسود كلما حقق المسلمون نصرًا٣.

وإن لنا أن نقيس على هذا ألوانا من الوحي وألوانا, كهذه الصورة التي تطلع بها علينا فاتحة سورة الهمزة, وقد ارتسمت فيها ملامح شخص حقير لئيم ما يني يعيب الناس بلسانه السليط، ويزري عليهم بلفتاته المتهكمة وحركاته الساخرة, ويبخسهم أشياءهم, ويستهين بكراماتهم, ولا يقيم في الحياة وزنا إلا لمال جمعه وعدده، وظنه سيخلده إذا فني كل شيء في الوجود، فلتقل الآيات في مثل هذا الحقير الصغير: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} وليحصر بعض المفسرين نطاق هذه الصورة وليقولوا: "المراد بذلك الأخنس بن شريق"٤، ثم ليتصد الزمخشري للقائلين بالتخصيص، وليعلن رأيه بصراحة: ويجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح، وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه"٥. وذلك ما لاحظه


١ سورة النساء ٧٢-٧٣.
٢ تفسير الطبري ٥/ ١٠٥.
٣ وبهذا أخذ إمام المفسرين الطبري أيضا. انظر تفسيره "٥/ ١٠٥".
٤ تفسير ابن كثير ٤/ ٥٤٨. وصرح الزمخشري ببعض الأسماء الأخرى ولو بصيغة التمريض فقال: "وقيل في أمية بن خلف، وقيل: في الوليد بن المغيرة" الكشاف ٤/ ٢٣٢.
٥ الكشاف ٤/ ٢٣٢.

<<  <   >  >>