للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ونزول الملائكة ليس في ذاته بالمستحيل، بيد أنه أمارة على الهلاك القريب, فهل يستعجل المشركون العذاب لأنفسهم؟ وهل يريدون أن تحق عليهم كلمة الخراب والدمار؟ ١.

إن الكفر ملة واحدة، وإن أساليب التعنت والعناد لدى الكافرين متماثلة, وما صورة مشركي مكة إلا مرآة للمكذبين من كل جيل: لو خرق الله لهم السماء, وفتح لهم فيها بابا، وأعد لهم فيها معراجا، ومكنهم من اختراق حجابها، وصدع بابها، والصعود في معراجها، لكابروا بلا حياء، وأنكروا بعناد عجيب ما رآه بصرهم الحسير, وزعموا أنهم مسحورون، وأن عيونهم مخدرة سكرى لا ترى إلا وهمًا وخيالًا٢.

إن القرآن -مع ذلك- لا يسلمهم إلى عنادهم البغيض، بل يوقظهم من سكرتهم، ويستثير كوامن الخير في أنفسهم, ويفتح عيونهم على مشاهد في هذا الكون الجميل تنطق بآثار الخلاق العليم: فهذه نجوم متلألئة في السماء تنتقل من منازلها وهي تدور، فتسر الناظرين, وتلك جبال شامخات ألقيت في الأرض بثقلها وضخامتها، فهي توحي بالرهبة والجلال، وهذا نبات يفترش الأرض أو يستلقي عليها أو يمتد في الهواء، وقد وزنه الله أحكم الوزن في طعمه ولونه وريحه ليكون رزقا للخلق ومعايش للعباد، ينزل من خزائن الرحمن بقدر معلوم، وتلك رياح لواقح تحمل الماء وتنطلق به ثم تسقطه مطرا غزيرًا مدرارًا٣ يروي العطاش ويحيي الموات، فالملك كله بيد الله،


١ حين طالب المشركون النبي بنزول الملائكة رد القرآن عليهم بقوله: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} فالملائكة لا تنزل إلا بعذاب المكذبين، ومتى نزلت لا إمهال ولا إنظار. قارن بالطبري ١٤/ ٦.
٢ قارن بقول الزمخشري في الكشاف ٢/ ٣١٢: "المعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها، ورأوا من العيان ما رأوا، لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا: قد سحرنا محمد بذلك! "
٣ عن عبد الله بن مسعود في قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} . قال: "ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة". وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخغي وقتادة: تفسير ابن كثير ٢/ ٥٤٩.

<<  <   >  >>