للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الآيات عن موسى، وإخراجه قومه من الظلمات إلى النور، وتذكيره إياهم بنجاتهم من آل فرعون١، إلا ليكون رمزا لوحدة الرسل التي نادى بها إبراهيم، لذلك لم يلبث السياق أن انتقل إلى حقيقة الرسالة وحقيقة دعوتها إلى الاعتقاد بالله الواحد، على لسان نوح وعاد وثمود: ففي أزمنة مختلفة ومواضع متعددة جاء أولئك الرسل جميعا بأصول متماثلة بينة لا تخفى حقائقها على أولي القلوب والأبصار. وكل رسول من أولئك المصطفين الأخيار كان يثير انتباه قومه إلى شكهم المريب كلما تعاموا عن آيات الله في السموات والأرض, وكل رسول منهم كان يقرر بشريته ولا ينكرها قائلا لقومه المكابرين: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ٢، وما كان فيهم إلا مواجه للطغيان، صبور على الاضطهاد، متوكل على الله، كأن كلا منهم صورة مكررة من أبيه إبراهيم: به يقتدي، وعلى آثاره يسير، وهكذا برزت وحدة الرسالة ونبتت فكرة التوحيد في ظلال من إيمان إبراهيم.

ثم تقلب في السورة صفحات مضيئة من كتاب الكون الكبير: في الماء المنهمر من السماء، والثمر النابت من الأرض، والشمس بضيائها الوهاج، والقمر بنوره الفضي، وفي كل صفحة من تلك الصفحات نرى أبا الأنبياء إبراهيم قارئا يتدبر، خاشعا يتبتل، كأن دعاءه الضارع يتكرر كلما لهج لسان بحمد الله! وهكذا رسمت لوحات الكون الجميل في إطار من قلبه المنيب.

ويريد الله في هذه السورة أن يمد ظلال "خليله" على هذه اللوحات مدا،


١ وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} الآيات، وانظر في الطبري المراد بقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} ١٣/ ١٢٢.
٢ قارن بقول الزمخشري في تأويل الآية: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تسليم لقولهم، وأنهم بشر مثلهم، يعنون: أنهم مثلهم في البشرية وحدها. فأما ما وراء ذلك فما كانوا مثلهم، ولكنهم لم يذكروا فضلهم تواضعا منهم، واقتصروا على قولهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} بالنبوة لأنه قد علم أنه لا يختصهم بتلك الكرامة إلا وهم أهل لاختصاصهم بها لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم" الكشاف ٢/ ٢٩٦.

<<  <   >  >>