للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيصور دعاءه الخاشع صاعدا إليه ذاهبا في السماء، حين يسأله للبلد الحرام الأمن والسلام، ويرجوه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ويطمع في رضاه عن كل من تبع سبيله، ولا يستعجل لمن حاد عن الصراط عذاب الخزي والهوان, ويحمد الله على أن وهبه على الكبر إسماعيل وإسحاق، ويختم بابتهال ضارع أن يغفر الله له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب١.

وينعكس، في مقابل هذه الصورة، "نموذج" آخر يجسد الإنسان الكافر الكنود الذي يتلو كتاب الكون بلسان جاحد، وينظر إلى آفاقه الجميلة ببصر حسير، فلا يبالي بشيء مما سخره الله له في السماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والنجم والشجر، واليل والنهار. وعلى أمثاله يلقي القرآن سياط التقريع والتأنيب تهز القلب وتلذع الوجدان وهو يقول: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ٢.

وإبراهيم, الذي عرضت من خلال شخصيته النبوية الكبرى تلك العقائد والتعاليم لم يك مجهولا في مكة: فجميع المكيين يعظمون إبراهيم, ولم يك مجهولا في المدينة فجميع يهود يثرب كانوا يقدسون الخليل, ولم تكن أخباره خافية على النصارى حيثما وجدوا فإن له في قلوبهم مكانة يغبطه عليها سائر النبيين: فإلقاء الأضواء على عقيدة التوحيد وعلى دعوة الرسل في إطار من شخص إبراهيم قد لون هذه السورة لونا يجمع على استحسانه أهل مكة وأهل التوحيد، وفتح باب الإيمان على مصراعيه أمام الحنفاء للدخول في دين الله أفواجا، وجاء في أواخر الوحي المكي إرهاصًا لأوائل السورة المدنية التي دأبت على تعظيم إبراهيم، وعلى تألف قلوب اليهود بمثل هذا التعظيم، وفي هذه الأضواء الخاصة برزت سورة "إبراهيم" بنمط فريد، في عرض فكرة التوحيد٣.


١ قارن بتفسير ابن كثير ٢/ ٥٤٠.
٢ قارن بالكشاف ٢/ ٣٠٣.
٣ أضف أيضا إلى ما أحلنا عليه من كتب التفسير -لتأويل سورة إبراهيم- تفسير البيضاوي ٤٨٥ والنسفي ٢/ ١٩٥.

<<  <   >  >>