للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لكن إساءة الأدب حقا مع الله تجسدت في تساهل أصحاب النسخ في الإكثار من القول بالناسخ والمنسوخ رغم علمهم اليقيني بأن ما يواجهونه بالبحث والتأويل هو إلى الإنساء أقرب، وبه ألصق: فقد سلكوا في المنسوخ مأ أمر به لسبب ثم زال سببه، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين

يرجون لقاء الله١ ثم نسخه بآية السيف، وليس هذا من النسخ في شيء, وإنما هو ضرب من النسء وتأخير البيان إلى وقت الحاجة كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} ٢، فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ، أو بيان الحكم المجمل٣، فقد أنسئ الأمر بالتقال إلى أن يقوى المسلمون، وأمروا في حال الضعف بالصبر على الأذى٤. وما أحكم الزركشي في تعليقه على هذا الموضوع بقوله: "وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال العلة إلى حكم آخر، وليس بسنخ. إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا"٥.

ومن ذلك أن الإسلام أمر المسلمين في بدء الدعوة -رأفة بهم ورحمة- بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ٦، ثم كتب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه لما قويت الدعوة الإسلامية، فأنزل الله على نبيه في كل حال ما يناسب الظروف التي تحيط به وبالمؤمنين, ولقد حمل هذا بعض العلماء على الإفتاء بالمسالمة والكف عن قتال أهل المنكر لو فرض وقوع الضعف على ما أخبر به


١ ابن سلامة ٢٧٨.
٢ سورة البقرة ١٠٦.
٣ قارن بالبرهان ٢/ ٤٣.
٤ انظر الإتقان ٢/ ٣٥.
٥ البرهان ٢/ ٤٢ ونقله السيوطي في "الإتقان" ٢/ ٣٥.
٦ سورة المائدة ١٠.

<<  <   >  >>