للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" ١.

ومن ذلك اشتباه البيان على بعضهم بالنسخ في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} ٢ فقد عدوه ناسخا لآية متأخرة عنه في ترتيب المصحف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ٣، والتحقيق أن ليس ههنا ناسخ ومنسوخ، وإنما بينت الآية الأولى ما لا يعد ظلما من أكل أموال اليتامى٤.

ولعل أعجب العجب أن تطوع للمفسرين أنفسهم القول بالتناسخ حتى في الأخبار مع أن العقل لا يكاد يتصور كيف يمكن تبديل الواقعة الثابتة بكل ما حدث فيها من أعمال وما جرى خلالها من أقوال: فها هم أولاء يعدون آية السيف ناسخة أيضا قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} ٥ وهو -كما يتضح من سياق الآية- حكاية لما أخذ على بني إسرائيل من الميثاق! ٦.

وآخر ما تنافس فيه عشاق النسخ إماطة اللثام عن الآيات المنسوخة التي طالت مدة العمل بها قبل نسخ حكمها، وإذا هم يهتدون -وليتهم لم يهتدوا! -


١ البرهان ٢/ ٤٣. قد علق الزركشي هنا بقوله الدقيق السديد: "وهو سحبانه وتعالى حكيم، أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة؛ فما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفار بالإسلام أو بأداء الجزية -إن كانوا أهل كتاب- أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب. ويعود هذان الحكمان -أعني المسالمة عند الضعف والمسايفة عند القوة- بعود سببهما، وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة, بل كل منهما يجب امتثاله".
٢ سورة النساء ٦.
٣ سورة النساء ١٠. وقارن بالناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ص١١٧.
٤ انظر عرض الآراء المختلفة هنا في تفسير ابن كثير ١/ ٤٥٥.
٥ سورة البقرة ٨٣. وانظر الناسخ والمنسوخ "لابن سلامة" ٣٧.
٦ وإليك الآية بتمامها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} . وقارن بتفسير ابن كثير ١/ ١١٩-١٢٠ والإتقان ٢/ ٣٦.

<<  <   >  >>