قبل من القول بالنسخ لئلا يقودهم بالبداء، فقد حسبوا أن نسخ الشيء بعد نزوله والعمل به يرادف تغيير الله للأحكام بما يبدو له بعد أن لم يك باديا، ولا يجوز نسبة شيء من هذا إلى الله، وتسرع بعض الباحثين المسلمين في القديم والحديث ففروا من النسخ كما فر منه اليهود وعدوه من قبيل البداء -ولا سيما حين رأوا إكثار المفسرين من النسخ من غير دليل- وقد غلا كلا الفريقين، فما كان لأصحاب النسخ أن يكثروا منه ويخلطوه بمفهومات أخرى لا صلة له بها، وما كان لمنكري النسخ أن يبطلوا أمرا صرحت به آيات في كتاب الله ودلت عليه وقائع ثابتة لا قبل للباحث المحقق بردها، ولا كان لهم أن يشبهوا على الناس النسخ بالبداء.
لقد نسي منكروا النسخ أو تناسوا -كما قال الزرقاني١:"أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ما ظهر له أمر كان خافيا عليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل. وإنما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده، بل من قبل أن يخلق الخلق، ويبرأ السماء والأرض، إلا أنه -جلت حكمته- علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوطا بحكمة ومصلحة أخرى. ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس، وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها والعباد مصالحهم، والنواسخ والمنسوخات كانت كلها معلومة لله من قبل ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه. والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده, لا ظهرو ذلك له".
على أن المنهج الذي نعرف به الناسخ والمنسوخ لا يشتبه فيه النسخ بالبداء، ولا بالتخصيص، ولا بالإنساء ولا ببيان المجمل، فإنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من صحابي يقول:"آية كذا نسخت كذا".