ويقال: إن الهدهاد بن شرحبيل خرج على الميعاد إلى أصهاره الجن في خاصة قومه وخدمه حتى وافاهم، فوجد قصراً بناه له الجن في فلاة من الأرض، تحفه النخل والأعناب وألوان الزروع وأنواع الفواكه، تجري فيه الأنهار الجارية. قال: فتعجب القوم من ذلك تعجباً شديداً، ورأوا ملكاً عظيماً، فنزلوا في القصر معه على فرش لم يروا مثلها، وقربت لهم موائد، عليها من طيبات المأكول وألوانها التي لم يأكلوا قط أطيب منها طعماً ولا أزكى رائحة، وسقوا من الشراب ما لم يشربوا قط أهضم منه ولا ألذ ولا أمرأ ولا أخف منه. فمكثوا معه ثلاثة أيام بلياليها في ذلك. ورفعت إلى الهدهاد بن شرحبيل امرأته الحرور بنة اليلب بن صعب العرمي ملك الجن. قال: وأذن الهدهاد لبني عمه وخاصة عشيرته بالانصراف إلى مواضعهم، وصار ذلك القصر دار مملكته.
ويقال إنه مكث زماناً طويلاً مع الحرور بنة اليلب بن صعب، وولد منها بلقيس بنة الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن يشدد بن الفظاظ بن عمرو بن عبد شمس. قال: فلما ترعرعت بلقيس توفي أبوها الهدهاد، ولم تعش بعده أمها الحرور بنة اليلب إلا قليلاً، وبقيت بلقيس بنة الهدهاد بن شرحبيل مع أخوالها العرميين من الجن.
ويقال إن ابن عم أبيها جلس بعد الهدهاد في الملك وهو شمرَّ يرعش، فسمع له والناس وأطاعوا، ثم إنه أرسل إلى بلقيس يخطبها، فأجابته إلى ذلك على أنه لا يخالفها في شيء تريده وفي شيء تكرهه، فضمن لها ذلك وتزوجها. فيقال: إنها لم تزل تبث المواهب والإحسان في الناس حتى استمالتهم إلى طاعتها.
ويقال: إن شمَّر يرعش لم يمت حتى أعطاها خاتم الملك لما رأى من كفايتها ورعايتها للملك وحفظها وحياطتها وحسن قيامها به، فكان لا ينهى ويأمر غيرها على الرسم الذي قد جرى لها.
ويقال: إنه مات وما درى أحد بموته إلا في أيام سليمان بن داود النبي صلى الله عليه وسلم حين رفعها الله زمن سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم ونقلها إليه. فلما توفي سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم انتقل الملك عن رهط بلقيس بنة الهدهاد بن شرحبيل إلى زرعة بن كعب، وهو حمير الأصغر، أخوه عبد شمس، وهو سبأ الأصغر، وهما ابنا كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عمرو بن عامر عند ذلك أخبره كاهن بخراب السد وخراب مأرب، وحذره ذلك، وقال له: احتل في تخلصك من ضررها فإنك في أوان ذهاب الجنتين وخراب السد.
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن عمرو بن عامر أولم وليمة، جمع فيها أهل بيته ووجوه عشيرته، وقد تقدم إلى ابنه ثعلبة بن عمرو، فقال له: يا بني، قد علمت ما أشرفنا عليه من خراب هذا السد وذهاب هاتين الجنتين. وقد عزمت على بيع الذي لنا فيهما، وليس أحد يشتريه مني إلا بحيلة أحتالها. واعلم أني شأخاشنك بالكلام بحضرة وجوه العشيرة من حمير وكهلان، فكلما كلمتك بكلمة شكعة فاردد علي بمثلها أو بأشكع منها وإذا رأيتني رفعت يدي لأضربك بها فارفع يدك علي، تري الناس أنك أردت ضربي بها، حتى أحلف على بيع جميع ملكي في مأرب وخروجي منها، أري الناس أني أريد لك إضرارك.
قال: فلما اجتمع الناس عنده لوليمته تلك من حمير وكهلان، وفرغوا من الطعام، وغسلوا أيديهم، وقرب لهم الشراب، أقبل عمرو بن عامر على ابنه ثعلبة بن عمرو فكلمه بكلام حوش، قال: فرد عليه ثعلبة بن عمرو كلاماً مثل كلامه أو أشد، قال: فرفع عمرو بن عامر يده على ابنه ثعلبة ليلطمه، قال فرفع عمرو بن ثعلبة يده، وقال له: وايم الله لأن لطمتني لألطمنك. قال: فعند ذلك آلى يميناً لا كفارة لها على بيع جمع ما يملكه في أرض مأرب من الجنتين وغيرهما وخروجه منها. ونادى هل من مشتر؟ قال: فلما رأى الناس أنه قد جد في البيع أقبلوا إليه، وقالوا له: أتأذن لنا أن نساومك في أموالك هذه؟ قال: فقال لهم: قد أذنت لكم، فساوموا. قال: فقالوا له: نأخذ منك نصف الذي لك بمائة حمل من كل شيء من المال الحسن. قال: فقال لهم: هم لكم بما طلبتم. قال: فدفعوا إليه مائة حمل من كل حسن قد سموه؛ وهو عشرون حملاً من التبر، وعشرون حملاً من الفضة، وعشرون حملاً من عصب اليمن، وعشرون حملاً من طرائف الحجاز، وعشرون حملاً من الكافور الأشهب والعنبر الهندي والمسك الأذفر.