قال فلما استوفى منهم عمرو بن عامر مائة حمل من كل شيء على الوصف الذي ذكرناه سلم إليهم نصف جميع الذي له من الجنتين، ولم يجد من يشتري النصف الآخر، فتركه، وخرج من مأرب بجميع ولده وأهله وعشيرته وكافة أزد، وأقبل فما لا يعلمه إلا الله من العدد والعُدد والخيل والإبل والشاء والبقر وغيرها من أجناس السوام، فلا يرد قومه وكافة من معه من بني عمه ماء إلا أنزفوه، ولا يسيمون بلداً إلا أجدبوه. وفي ذلك ضربت الأمثال لهم الرواد في البلاد، حيث خرجت تلتمس لهم المرعى والماء. وكان من روادهم رجل من عمرو بن الغوث خرج لهم رائداً إلى بلاد إخوتهم همدان فرأى بلاداً لا تقوم مرعاها ومياهها بماشيتهم، فأقبل آتياً إليهم حتى وافاهم، ثم قام فيهم منشداً وهو يقول: " من الوافر "
ألمَّا تعجبُوا مِنَّا ومِمَّا ... تعسَّفنَا بهِ ريبَ اللَّيالي
تركَنَا مأرباً وبِهَا نشأنَا ... وقد كُنَّا بها في حُسنِ حالِ
تقِيلُ سُرُوجُنَا في كُلِّ يومِ ... على الأشجارِ والماءِ الزُّلالِ
وكُنَّا نحنُ نسكُنُ جنَّتيهَا ... مُلُوكَاً في الحدائقِ والظلالِ
فوسوسَ ربُّنا عمراً كلاماً ... لكاهِنِهِ المُصِرِّ على الضَّلالِ
فَأقبلنَا نسُوقُ الخُودَ مِنها ... إلى بلدِ المجاعِةِ والهزالِ
ألا يا للرِّجالِ لقد دهتهُمْ ... بمُعضِلةٍ ألا يا للرِّجَالِ
أبعدَ الجَنَّتينِ لنا قرارٌ ... برَبذةَ أو أَثافِتَ أو أزالِ
فأما الجوفُ وادٍ ليسَ فيهِ ... سِوى الرِّيضِ المُبَرَّدِ والسَّيالِ
وفي عوف فليسَ لكُمْ قرارٌ ... ولا هي مُلتجا أهلٍ ومالِ
وأرضُ البونِ قصدكُمُ إليها ... لترعَوهَا العظيمَ من المُحالِ
وفي الخُشُب الخلاء وأشرفيها ... لَكُمْ يا قومِ من قيلٍ وقالِ
وهذا الطُّودُ دُونَ الغورِ مِنكُمْ ... ودونَ الغَورِ أركانُ الجبالِ
وخيلكُمُ إذا حشَّمتمُوها ... تزور الشَّامخَات مِنَ القلال
أخافُ وجى تعلُّقها عليكُم ... فتُصبُحُ لا تسِيرُ من الكلالِ
وأنتُم يا بني الغَوثِ بن نبتٍ ... فلا والخيلِ والسُّمرِ العوالي
إذا ما الحربُ أبدتْ ناجِذيَها ... وشمرَّت الجحاجِحُ للقتالِ
قال: وكان من روادهم رجل يقال له عائذ بن عبد الله بن نصر بن مالك بن نصر بن الأزد، خرج لهم رائداً إلى بلاد إخوتهم حمير، فرأى بلاداً ضيقة، لا تحملهم، ولا تقوم مياهها ومراعيها بماشيتهم، مع ما فيها من كثرة أهلها. وأقبل آتياً إليهم حتى وافاهم، فقام فيهم منشداً وهو يقول:
علامَ ارتحالُ الحيِّ من أرضِ مأربٍ ... ومأربُ مأوى كُلِّ راضِ وعاتبِ
أما هي فيها الجنَّتانِ وفيهِما ... لنا وطنٌ فيه فُنونُ الأطايبِ
ألمْ تكُ تغدُو خُورُنا مُرجَحِنَّةً ... على الحرجِ الملتفِّ بين المشارِبِ
لئن قال قولاً كاهِنٌ لمليكِنَا ... وما هُوَ فيما قال أوَّلُ كاذِبِ
نُخلِّفُها والجَنَّتينِ ونبتغِي ... بجهرانَ أو في يحصبٍ مثل مأرِبِ
فهيهاتَ بل هيهاتَ والحقُّ خيرُ ما ... يُقالُ وبعضُ القولِ كشف المعايِبِ
لقد رُدتُ صَيداً والسحولين بعده ... وعُنَّة والسيّال بين الربائبِ
وغوَّرتُ حتَّى طُفتُ من أرضِ حميرٍ ... لمأربنَا مِنْ مُشبهٍ أو مقاربِ
وهذي الجِبالُ الشُّمُّ للغورِ دُونكُمْ ... حجابٌ وما فِيها لكُمْ مِنْ مآربِ
وخيلُكُم خيلٌ رَعَتْ في سُهُولةٍ ... من الأرضِ لم تألفْ طُلُوعَ الشناخبِ
أخافُ عليهنَّ الونى إن ربابها ... وأنتم ولات المعلمات العجائبِ
وَكَمْ ثمَّ كَمْ مِنْ معشرٍ بعد معشرٍ ... أبحتُمُ حماهُمْ بالجيادِ السلاهبِ