وممن نص على ذلك الإمام محيي السنة أبو محمد البغوي في كتابه "التهذيب" وهو من أجل الكتب المصنفة في الفقه. قال في أوله ما نصه: العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية – وذكر فرض العين – ثم قال: وفرض الكفاية: هو أن يتعلم ما يبلغ به رتبة الاجتهاد، ومحل الفتوى والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين. فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحد أو اثنان سقط الفرض عن الباقين. فإذا قعد الكل عن تعلمه عصوا جميعاً لما فيه من تعطيل أحكام الشرع. قال الله تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة، الآية: ١٢٢] هذا لفظه بحروفه.
فصل
وقال ابن سراقة أحد أصحابنا في أول كتابه "إعجاز القرآن" في حكمة تقسيم القرآن إلى محكم ومتشابه. لو كان جميعه جلياً محكماً لعدم الثواب على الاستنباط وسقط حكم الاجتهاد المؤدي إلى شرف المنزلة وعظم المروءة. ولهذا المعنى لم ينص الله تعالى على حكم جميع الحوادث مفصلاً. بل أبان بعضها وذكر أشياء في الجملة وكل بيانها إلى رسول صلى الله عليه وسلم ليرفع بذلك درجته وتفتقر أمته في علم شريعته إليه. فأبان النبي صلى الله عليه وسلم منها ما أبان ووكل ما يطرأ منها إلى العلماء بعده وجعلهم في علم التنزيل ورثته، والقائمين مقامه في إرشاد أمته إلى حكم التأويل ليعلو الطالب بتلك المنازل، ويفتقر الجاهل إلى العالم إذ كانت الدنيا دار تكليف وبلوى لا دار راحة. ولو كان العلم جلياً لا يحتاج إلى بحث واجتهاد، ولا إلى نظر واستنباط لكان علم التوحيد كذلك. فكان العلم بالله سبحانه ضرورة وكان في ذلك سقوط المثوبة وإبطال الشريعة، واستغنى عن العمل لطلب الثواب وخوف العقاب وهذه صفة الآخرة وحكم بقاء الخلق في الجنة. هذا كلام ابن سراقة.