ثم قال في موضع آخر: الفصل الأول في طبقات كتب الحديث. اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف المصالح، فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس ونحو ذلك ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره صلى الله عليه وسلم إلا تلقي الروايات المنتهية إليه بالاتصال والعنعنة، سواء كانت من لفظه صلى الله عليه وسلم أو كانت أحاديث موقوفة قد صحت الرواية بها عن جماعة من الصحابة والتابعين، بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لولا النص والإشارة من الشارع. فمثل ذلك رواية عنه صلى الله عليه وسلم دلالة، وتلقي تلك الروايات لا سبيل إليه في يومنا هذا إلا بتتبع الكتب المدونة في علم الحديث، فإنه لا يوجد اليوم رواية يعتمد عليها غير مدونة وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة فوجب الاعتناء بمعرفة صفات كتب الحديث.
فنقول: هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات. وذلك لأن أعلى أقسام الحديث ما ثبت بالتواتر، وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به ثم استفاض من طرق متعددة، لا يبقى معها شبهة يعتد بها واتفق على العمل به جمهور فقهاء الأمصار، أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة – إلى أن قال: الطبقة الأولى: منحصرة على بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. قال الشافعي رحمه الله تعالى: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك. وقد اتفق أهل الحديث على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه وأما على رأي غيره: فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى. فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه. وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج أحاديثه، ووصل منقطعه مثل كتاب ابن أبي ذئب، وابن عيينة، والثوري، ومعمر، وغيرهم ممن شارك في الشيوخ.