وقال ابن خلدون: وكان علم الشريعة في مبدأ هذا الأمر نقلا صرفاً، وشمر لها السلف وتحروا الصحيح حتى أكملوها. وكتب مالك كتاب "الموطأ" أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه. ورتبه على أبواب الفقه ثم عني الحافظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيدها المختلفة. وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين. وقد يقع الحديث أيضاً في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها. وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره فخرج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه وكرر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث فتكررت لذلك أحاديثه، حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب. ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري رحمه الله تعالى فألف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه وحذف المتكرر منها وجمع الطرق والأسانيد، وبوبه على أبواب الفقه وتراجمه. ومع ذلك فلم يستوعبا الصحيح كله. وقد استدرك الناس عليهما في ذلك ثم كتب أبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النسائي في سنن بأوسع من الصحيح وقصدوا ما توفرت فيه شروط العمل، إما من الرتبة العالية في الأسانيد وهو الصحيح، كما هو معروف، وإما من الذي دونه من الحسن وغيره ليكون ذلك إماماً للسنة والعمل. وهذه هي المسانيد المشهورة في الملة وهي أمهات كتب الحديث في السنة. فإنها- وإن تعددت- ترجع إلى هذه في الأغلب، ومعرفة هذه الشروط والاصطلاحات كلها: هي علم الحديث. وربما يفرد عنها الناسخ والمنسوخ فيجعل فنا برأسه. وكذا الغريب. وللناس فيه تآليف مشهورة انتهى.
ثم نقص بعد ذلك الطلب وقل الحرص، وفترت الهمم. وكذلك كل نوع