للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عَقِب - أمين الوحي الملَك جبريل عليه السلام، تلطُّفًا من الله عز وجل وغِواثاً لطفل مبارك قد تلوّى عطشًا، فلم تعد أمه الصالحة تطيق نظرًا إليه، وهو ينشغ للموت (١) أمام ناظرَيْها، فلما أن فرغ فؤاد الأم من أي شاغل سوى سقيا ولدها الرضيع، وكاد رجاؤها أن ينقطع في ذلك الوادي بعد أن جابته سبعًا، أدركها الله تعالى بعنايته ولطفه، ففار الماء من أرضٍ يَبَسٍ جُرُزٍ (٢) ، تغرف منه فلا يزداد إلا كثرة، وتُحوِّضه بيدها، وقد هالها ما تراه، ولا غَرْو في ذلك، فإن الله لا يضيع أهله، إن إبراهيم - خليل الرحمن - عليه السلام قد أودع زوجه وولده حيث أمره ربه، وقد تم توكله على الله واستسلامه له، فأسكنهم بوادٍ غير ذي زرع عند بيت الله المحرّم، آمرًا لهم بطاعة الله تعالى، فلما أن امتثلوا لذلك أفاض الله عليهم من بركاته، وأورثهم آية بينة ونعمة ظاهرة وخيرًا عميمًا ونفعًا عظيمًا، هوت إليهم بسببه أفئدة الناس محبة وتعظيمًا، وحذا حذوهم ضيفان الرحمن، وحجاج بيته وعمّاره إلى يوم القيامة، فهم يحاكون ما فعلوه في مناسكهم، ويستحضرون في وجدانهم خطوات أبيهم إبراهيم وطوافه وولده، وسعي أمهم، وشربها وولدها من نبع ذلك الماء الذي لا يضارعه نبع على وجه الأرض في كثرة الاستقاء منه، وهو مع ذلك كلِّه لا يزداد إلا فورانًا، ليس ذلك فحسب بل كلما شرب منه شارب حقق الله تعالى قصده وطلبه فيما نواه عند شربه، بل هو شفاء - بإذن الله - من كل داء، وغذاء مجزئ عن عموم الغذاء، وهو


(١) «يَنْشَغُ لِلْمَوتِ» كما في صحيح البخاري، برقم (٣٣٦٥) ، أي: يشهق حتى يكاد يبلغ به الغَشْي، كالذي ينازع. انظر: النهاية، لابن الأثير (٥/٥٠) .
(٢) أرض جُرُز: بلقع لانبات فيها. انظر: مختار الصحاح، مادة (ج ر ز) ، والمعجم الوسيط (جَرَز) . قال تعالى: [الكهف: ٨] {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا *} .

<<  <   >  >>