للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فالأدب كائن حي متجدد الحيوية، متجدد الحرارة، وله كيانه وشخصيته، مثلي ومثلك. إنها شخصية ممتلئة بالقوة، ولكنها شخصية أميز ما فيها أنها مرنة، وليست صلبة جامدة. إن النبات والحيوان والإنسان جميعًا تتكيف بحسب البيئة التي توجد فيها، وهذه القدرة على التكيف مرجعها إلى المرونة التي يتمتع بها كيانها وتتمتع بها شخصياتها. وهي كلما اختلفت عليها الأزمنة والأماكن راحت تتكيف مع البيئة الجديدة. ولولا هذه القدرة على التكيف, ولولا هذه المرونة التي تتمتع بها شخصياتها -على تفاوت بينها في أنصبتها من هذه المرونة- لوجدناها تنقرض وتزول، فالشخص لا يعيش إلا بما في شخصيته من مرونة يواجه بها ظروف الحياة فيتكيف معها، ويتغلب بذلك عليها، ويستمر بعد كل محنة في وجوده الحي النابض، وتزداد بذلك شخصيته قوة على قوة.

شخصية العمل الأدبي:

العمل الأدبي شخصية من هذا النوع، ولكنها شخصية جبارة، إنها شخصية قد كسبت قوتها من آلاف التفاعلات التي مرت بها في حياتها الطويلة. إننا نتفاعل مع أصدقائنا وأقاربنا وتلاميذنا ألوانًا مختلفة من التفاعل بما هم كائنات حية تؤثر وتتأثر, وكذلك تتفاعل مع الأدب. ألسنا نتخذ في كثير من الأحوال من الشعراء الذين مرت عليهم مئات السنين أصدقاء لنا؟ ألسنا نطيل صحبة قصيدة من القصائد ونعتزّ بها؟ إننا نتفاعل بذلك معها كما نتفاعل مع أصدقائنا, نتفاعل معها فتؤثر فينا ونؤثر فيها، ولكننا نمضي جميعًا وتبقى هي محتفظة بحصيلة تلك التفاعلات، ممتعة بما أفادت من تأثرات الألوف من الذين صاحبوها في وقت من الأوقات وتفاعلوا معها. ألا يكون للعمل الأدبي بعد ذلك شخصية جبارة، وطاقة هائلة؟ ولكنها شخصية مرنة، وطاقة متلونة.

إنها شخصية مرنة لا تقف منك موقف عناد، ولا تصر على شيء وهي بذلك تمتاز عن الحقائق الصارمة. إنك تقرأ هذه العبارة الحسابية "٢+٢=٤" فلا تستطيع أن تفهم منها إلا فهمًا واحدًا، ولن تخرج منها إلا بحقيقة واحدة، وهي حقيقة خالدة باقية كذلك، ولكنها حقيقة جامدة لا مرونة فيها بل فيها إصرار. ونحن نذعن دائمًا في هذه الحالة للإصرار والبناء, ويوم نريد من "٢+٢" أن تساوي خمسة مثلا تخذلنا العبارة؛ لأنها تصر على أن تساوي أربعة فقط، ولا يمكن التزحزح عن هذا الإصرار؛ وعندئذ نمضي طائعين أو مكرهين إلى التسليم بهذه الحقيقة التي نضطر جميعًا إلى الاتفاق عليها. إنها حقيقة صارمة جامدة لا حياة فيها، ومن ثم لا نتفاعل معها، فلا تتأثر بها شخصياتنا، ولا تترك شخصياتنا فيها أثرًا. إنها شخصية ذات جانب واحد, إذا أمكن التعبير. ولكن العمل الأدبي شخصية متعددة الجوانب، وهذا هو السر في أنها تستطيع

<<  <   >  >>