للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحديث عن شخصية أبيه وشخصية أمه، وعن أصولهما في أجداده لأبيه وأجداده لأمه ... إلخ.

على أن العقاد لا يذكر ذلك كله لمجرد تقرير عدد من الحقائق التي صاحبت نشأته الأولى، بل كان الهدف البعيد من ذكر ذلك هو أن يفسر في ضوئه -قدر المستطاع- سلوكه الشخصي والعقلي بعد أن شبَّ ونضج؛ إيمانًا منه بأن الطباع تورث، وأن كثيرًا من طباعه التي لازمت سلوكه في شتى مراحل حياته دون تغير إنما يرجع بصفة أساسية إلى عناصر الوراثة لديه. وهو نفسه يقول في الفصل السادس من الكتاب تحت عنوان "فلسفتي في الحياة": "من فلسفة الحياة ما نستمده من الطبع الموروث، ومنها ما نستمده من تجربة الحوادث والناس، ومنها ما نستمده من الدرس والاطلاع، وهي في اعتقادي على هذا الترتيب في القوة والأصالة"١, ومن ثم نراه حين يحدثنا عن نزعته الإيمانية -مثلًا- يقول:

"أؤمن بالله وراثة وشعورًا وبعد تفكير طويل"٢. ونعود فنتذكر حديثه في الفصل الأول عن أبيه، كيف أنه كان يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، وكيف أن صورته وهو يؤدي صلاة الصبح، جالسًا على سجادة الصلاة من مطلع الفجر إلى ما قبل الإفطار، يتلو سورًا خاصة من القرآن الكريم ويعقبها بالدعوات, كيف أن صورته هذه ظلت مطبوعة في ذاكرته طوال حياته٣. وكذلك نتذكر ما قرره في الفصل نفسه عن أمه، من أنه ورث عنها تقواها، وأنه فتح عينيه يراها وهي تصلي وتؤدي الصلاة في مواقيتها٤.

وعلى هذا النحو يتشبث العقاد بأثر التنشئة الأولى وبعنصر الوراثة في تشكيل سلوكيات الإنسان ومعتقداته على السواء، ومن هنا يتضح لنا معلم أساسي من معالم منهج العقاد في كتابة الترجمة الذاتية، بل في كتابة السيرة بعامة، وهو أنه يقدم على الشخصية التي يترجم لها كأنها موضوع دراسة لا بد أن تلتئم نتائجه مع مقدماته، وكأن الشخصية موضوع الترجمة أمامه مجموعة من الظواهر المادية والمعنوية التي تصدر في بدايتها عن عوامل بيئية ووراثية، وتئول في نهايتها إليها. وهو منهج تبريري في أساسه، يرد فيه الكاتب كل مزية أو نقص في الشخصية التي يترجم لها إلى ما كمن فيها من


١ نفسه ص١٦٨.
٢ نفسه ص١٥٢.
٣ نفسه ص٣١.
٤ نفسه ص٣٩.

<<  <   >  >>